وأنزل الله عليه فيما قال عبدالله بن أبي أمية : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه ، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) .
قال ابن هشام : الينبوع : ما نبع من الماء من الأرض وغيرها ، وجمعه : ينابيع . قال ابن هَرْمة ، واسمه إبراهيم بن علي الفهري .
وإذا هرقت بكل دار عبرة * نُزف الشئون ودمعك الينبوع
وهذا البيت في قصيدة له . والكسف : القطع من العذاب ، وواحدته : كسفة ، مثل سدرة وسدر . وهي أيضا : واحدة الكسف . والقبيل : يكون مقابلة ومعاينة ، وهو كقوله تعالى : ( أو يأتيهم العذاب قبلا ) : أي عيانا . وأنشدني أبو عبيدة لأعشى بني قيس بن ثعلبة :
أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها * كصرخة حُبْلى يسَّرتها قبيلُها يعني القابلة ، لأنها تقابلها وتقبل ولدها . وهذا البيت في قصيدة له . ويقال : القبيل : جمعه قُبُل ، وهي الجماعات ، وفي كتاب الله تعالى : ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) فقُبل : جمع قبيل ، مثل سبل : جمع سبيل ، وسرر : جمع سرير ، و قمص : جمع قميص . والقبيل أيضا : في مثل من الأمثال ، وهو قولهم : ما يعرف قبيلا من دبير : أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر ؛ قال الكميت بن زيد :
تفرقت الأمور بوجهتيهم * فما عرفوا الدَّبـيـر من القَبيلِ
وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال : إنما أريد بهذا القبيل : الفتل ، فما فتل إلى الذارع فهو القبيل ، وما فتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير ، وهو من الإقبال والإدبار الذي ذكرت . ويقال : فتل المغزل . فإذا فُتل المغزل إلى الركبة فهو القبيل ، وإذا فتل إلى الورك فهو الدبير . والقبيل أيضا : قوم الرجل . والزخرف : الذهب . والمزخرف : المزين بالذهب . قال العجاج :
من طلل أمسى تخال المصحفا * رسومه والمذهب المزخرفا
وهذان البيتان في أرجوزة له ، ويقال أيضا لكل مزيَّن : مزخرف .
نفي القرآن أن رجلا من اليمامة يعلمه
قال ابن إسحاق : وأُنزل في قولهم : إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة ، يقال له الرحمن ، ولن نؤمن به أبدا : ( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن ، قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت ، وإليه متاب ) .
ما أنزله الله تعالى في أبي جهل و ما هم به
وأُنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام ، وما هم به : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، أرأيت إن كذب وتولى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة ، فليدع ناديه ، سندع الزبانية ، كلا لا تطعه واسجد واقترب ) .
قال ابن هشام : لنسفعا : لنجذبن ولنأخذن . قال الشاعر :
قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتهم * من بين ملجم مُهْره أو سافع
والنادي : المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم ، وفي كتاب الله تعالى : ( وتأتون في ناديكم المنكر ) وهو الندي . قال عبيد بن الأبرص :
اذهب إليك فإن من بني أسد * أهل الندي وأهل الجود والنادي
وفي كتاب الله تعالى : ( وأحسن نديا ) . وجمعه : أندية . فليدع أهل ناديه . كما قال تعالى : ( واسأل القرية ) يريد أهل القرية . قال سلامة ابن جندل ، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم :
يومان يومُ مقامات وأندية * ويوم سير إلى الأعداء تأويبِ
وهذا البيت في قصيدة له . وقال الكميت بن زيد :
لا مهاذير في النديّ مكاثيرَ ولا مصمتين بالإفحامِ *
وهذا البيت في قصيدة له . ويقال : النادي : الجلساء . والزبانية : الغلاظ الشداد ، وهم في هذا الموضع : خزنة النار . والزبانية أيضا في الدنيا : أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه ، والواحد : زِبْنِية . قال ابن الزبعرى في ذلك :
مطاعيمُ في المقرى مَطاعين في الوغى * زبانية غلب عظام حلومها
يقول : شداد . وهذا البيت في أبيات له . وقال صخر بن عبدالله الهذلي ، وهو صخر الغي :
ومن كبير نفر زبانية *
وهذا البيت في أبيات له .
ما أنزله تعالى فيما عرضوه عليه ، عليه الصلاة و السلام من أموالهم
قال ابن إسحاق : وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم : ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ، إن أجري إلا على الله ، وهو على كل شيء شهيد ) .
استكبار قريش عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم
فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث ، وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه ، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتِّباعه وتصديقه ، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ، ولجوا فيما هم عليه من الكفر ، فقال قائلهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ، أي اجعلوه لغوا وباطلا ، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك ، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم .
تهكم أبي جهل بالرسول صلى الله عليه و سلم و تنفير الناس عنه
فقال أبو جهل يوما و هو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق : يا معشر قريش ، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار و يحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عددا ، وكثرة ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم ؟ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) إلى آخر القصة ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي ، يتفرقون عنه ، ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوته ، فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته ، وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه .
سبب نزول آية : ( و لا تجهر ... الخ )
قال ابن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، مولى عمرو بن عثمان ، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حدثهم : إنما أنزلت هذه الآية : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ، وابتغ بين ذلك سبيلا ) من أجل أولئك النفر . يقول : لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ، ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به .