أعقل مجنون
(القصة الحائزة على المركز الأول في مسابقة القصة بكلية الألسن 2007)
حسام خليل
(القصة الحائزة على المركز الأول في مسابقة القصة بكلية الألسن 2007)
حسام خليل
سُمع صوت نفير القطار إيذاناً بمقدمه. الضباب كثيف في تلك الساعة من الصباح. لاح القطار من بعيد يكتنفه بياض مطبق. وصل أخيراً بعد أن تأخر نصف ساعة. المحطة مكتظة بالبشر. صنوفٌ شتى من البشر؛ موظفون وعمال، طلبة وتلاميذ، باعة جائلون، شحاذون. الكل يتكلم، حتى أصبحت المحطة مصدر ضجيج يضاف إلى الضوضاء الصادرة من الفرن المجاورة، وتصايحِ المصطفّين في طوابيرها. تتصاعد الأصوات كالبخار، لتكوّن سحابة ضوضاء هائلةً تسارع إلى أذن المقبل من بعيد لتمطر عليها: "يا ريِّس عبده . . . زينة وفلورة يا منديل . . . القُرَص الطازة . . . اتأخرت عن المدرسة يا ماما . . . عشرين رغيف يا عم أحمد . . . لله يا محسنين) . . .
من بين هذه الحشود، رفع (كمال) رأسه عن كتاب مفتوح بين يديه، ورنا ناحية القطار، ثم عاد ببصره إلى كتابه فطواه بهدوء تام، ووضعه في حقيبته المطروحة إلى جواره. توقف القطار حذاء المحطة. فاندفعت الجموع تخترق أبوابه. نَعِمَ أقلُّهم ـ وأمهرهم في التزاحم ـ بمكان للجلوس، وتوزع الباقون في ردهة القطار وعلى أبوابه. وُفق كمال ـ الصدفة لا المهارة ـ في الوقوف اعتماداً على أحد القوائم المتباعدة في الردهة. انطلق نفير القطار. ولم تمض لحظات حتى بدأ في التحرك.
كعادته، أرهف كمال سمعه ليبلغَ أذنيه أزيزُ العجلات الهادئ، وازدادت السرعة حتى وصلت إلى الذروة، وتعالى القرع على القضبان في إيقاع منتظم. استقر بالركاب المقام، وعكف كلٌّ على شيء يشغل به وقته. فرفع كمال حقيبته ومال عليها قليلاً وأخرج منها كتاباً ضخماً، وجعل يقرأ فيه. غاب عن دنياه. وغابت عنه دنياه. وغاص في أعماق الكتاب على أنغام سيمفونية (قرع القضبان) التي يؤديها أركسترا (عجلات القطار). وما كان لينتبه إلى ما حوله لولا يد (الكمسري) جذبت قميصه وقد تقلص وجهه امتعاضاً: "ألا تسمعني؟. . أين التذكرة؟ . . أسرع . . التذكرة يا محترم . ."؛ فأخرج كمال من جيب سرواله الخلفي حافظة نقوده، وأعطاه ثمنها. فانصرف الكمسري وعاد كمال إلى كتابه.
توقف القطار في إحدى المحطات، واندفع إليه نفرٌ آخرون. فاشتد الزحام عما كان، حتى كادت الضلوع تختلف، والكلاكل تنطبق. رغم ذلك، تشبث كمال بالقائم لئلا يفقد موقعه المميز. واستأنف القطار رحلته. واستأنف كمال قراءته.
ـ كمالعبد الرحمن؟ . .
انتبه كمال لذكر اسمه، والتفت إلى مصدر الصوت. وبهدوء قال:
ـ أهلاً يا سلامة.
ـ يا لها من مصادفة. لم نلتق مذ كنا بدروس الثانوية العامة السنة الماضية.
ـ فرصة سعيدة.
ـ أتركب نفس القطار يومياً؟
ـ في أكثر الأحيان.
ـ لِم لَم أرك إذن؟
ـ إرادةُ الله.
ـ بأية كلية التحقت؟
ـ بكلية العلوم. ماذا عنك؟
ـ التحقت بكلية الآداب - قسم اللغة العربية.
ـ حسنٌ.
ـ فيم تقرأ ؟
وتناول الكتاب من يد كمال وقرأ على غلافه بصوت مسموع: "نجيب محفوظ . . . ملحمة الحرافيش"، ثم رفع رأسه وعلى وجهه أمارات الدهشة:
ـ عذراً، أتدرس بكلية العلوم أم دار العلوم؟!
ـ كلية العلوم - قسم الكيمياء.
ـ هل يدرس طلبة (كلية العلوم - قسم الكيمياء) أعمالاً أدبية؟!
ابتسم كمال وأجاب بالنفي. فسأل سلامة مشيراً إلى الكتاب والدهشة لم تفارق وجهه:
ـ إذن، ما هذا؟
ـ قراءة الأدب أعظم متع الدنيا.
ـ أدب؟! نُجبَر في كليتنا على دراسته إجباراً، ونحن عنه معرضون. وأنت تقرؤه بمحض إرادتك؟!
ـ لكلٍّ هوايته التي يسعد بها.
ـ أجل، ولكنها . . . هواية غريبة.
ـ أتقصد أنك لا تقرأ مطلقاً؟
ـ أكره القراءة كرهي للجحيم. لا، انتظر. إني أقرأ . . بل وأكتب أيضاً . . في الـ "شات" على الإنترنت. حتى هذا أقلعت عنه منذ صارت المحادثات صوتية.
فقال كمال باسماً:
ـ دعنا من هذا الحديث الذي لا يُرجى من ورائه طائل. ثمة ما أريد إتمام قراءته.
وأخذ الكتاب من سلامة وفتحه وبدأ يقرأ غير آبه بوجود صاحبه. فأخذت ملامحه تسترد هدوءها ولينها الآنفين.
بلغ القطار المحطة الأخيرة، حيث ينبغي على الشابين النزول. وفكر كمال في الابتعاد عن سلامة، فاندس وسط جموع الركاب في غفلة من صاحبه، وتحقق له ما يريد. الحق أنه لم يضمر بغضاً له، وإنما رأى في مصاحبته الطريقَ كله إضاعة لوقت قراءته، ولاسيما أن كليتيهما متجاورتان.
استقل كمال سيارة (ميكروباص). جلس واستأنف القراءة. ومع نهاية الطريق فرغ من قراءة الحكاية الرابعة من ملحمة الحرافيش. قَلَبَ الصفحة: "قرة عيني - الحكاية الخامسة من ملحمة الحرافيش". وهنا توقفت السيارة أمام باب الجامعة، فوضع الكتاب في الحقيبة، وخرج قاصداً كليته.
* * *
في تمام الخامسة من مساء ذلك اليوم، مرق كمال خارجاً من الباب، لا يلوي على شيء، ولا ينظر إلى أحد، وأكبر الظن أن أحداً لم ينظرإليه. كان الوقت أصيلاً، والشمس تجود بزعفرانها على كل شبر من أديم الأرض، فتلوح ثمار البرتقال في حانوت الفاكهة المقابل كراتٍ من الذهب يتلألأ منها بريقٌ حبيبٌ إلى النفس. ودَّ كمال لو يقف فينتظر حتى تأوي الشمس إلى مستقرها. لكنه متأخر اليوم. لابد أن يعود إلى المنزل في الحال.
في (الميكروباص) جلس ودسَّ يده في حقيبته، في الوقت الذي عمد السائق فيه إلى راديو السيارة يقلَب بين محطاته إلى أن استقر على موجة تذاع عليها أغنية أم كلثوم "الأطلال". فبرقت في عيني كمال نظرةُ بِشْر، وأخرج يده من الحقيبة خاوية، وتمتم سراً بكلمة شكر للسائق. الذي ما لبث أن استبدل الأطلال بـ (شريط كاسيت) يتعالى صياحٌ وعويل يصم الآذان. دفع كمال الأجرة، وضع رأسه بين ذراعيه معتمداً على مسند المقعد المقابل، سائلاً الله أن ينجيه من هذا الشر المستطير بإغفاءة لا يصحو منها إلا بنهاية الطريق.
استجاب الله لدعائه، ولم يوقظه إلا أحد الركاب ينبئه أن قد وصلت السيارة إلى محطة القطار. فنهض مهرولاً واتجه صوب المحطة. ركب
القطار فلم يكن مزدحماً كحاله صباحاً. وبعد أن جلس أخذ القطار في الامتلاء رويداً رويداً، إلى أن جلست بجواره سيدة يبدو عليها الوقار. بإحدى يديها طفل صغير
وبالأخرى حقيبة تسوق.
أطلق القطار نفيره، ومضى متمهلاً في تؤدة وأناة بادئَ الأمر، ثم ازدادت سرعته تدريجياً. وكمال يراقب وقع العجلات على القضبان، أزيزَها الهادئ، ثم الطقطقةَ المتسارعة. كاد يخلد للنوم ثانية لولا بكاء الصغير. عبثاً حاولت الأم تهدئته. اقتربت امرأة عجوز وأعطت الطفل لعبة جميلة كانت تلعب بها حفيدتها التي ترافقها. ازداد صراخ الطفل، ولم تدرِ الأم ماذا تفعل. نحّت اللعبة جانباً، وأعطته (حافظة نقودها) الصغيرة، فتناولها الطفل ولعب بها وهدأت ثورته، فقبّلته الأم وجعلت تهدهده.
تابع كمال ذلك باهتمام وشغف شديدين. تعجب من أمر الطفل الذي يؤثر (حافظة نقود) رثة على لعبة رائعة المنظر، تخلب لب الكبير قبل الصغير. ظل يفكر ويتأمل: "إنه الرمز؛ فلا اللعبة ولا مقدمتها تمثل شيئاً ذا معنى عند الطفل. إنه يبكي لا لحاجة إلى لعبة، وإنما لالتماس اهتمام أمه. فوجد هذا الاهتمام في حافظة نقودها. هو الرمز، ولا شيء سواه. لم يسعد بالحافظة لِذاتها، بل بتودد أمه إليه، وعطفها عليه. الحافظة عطية من أمه ترمز هذا التودد وهذا العطف . . .". وكان قد قرأ رواية توفيق الحكيم (يوميات نائب في الأرياف)، وتأثر برأيه في (الرمز). فكان تحليله منطلقاً من هذا التأثر.
توقف القطار في إحدى المحطات. دخل شاب في مثل عمر كمال وله مثل هيئته، ويحمل في يمناه حقيبة. جلس على المقعد المقابل له، ثم أخرج من حقيبته جريدة وجعل يقلب بصره بين صفحاتها. لاحظ كمال أن الشاب يختلس النظر إلى الطفل من وراء الجريدة. لم يعِره اهتماماً في أول الأمر. لكن لفت نظرَه تجمدُ عيني الشاب على الطفل. تعجب من اهتمام الشاب الزائد بالطفل: "تُرى ماذا يجذب انتباهه إلى الطفل؟ ألأنه مأخوذ بمنظره؟ لا، ليس في نظرته ما يشي بإعجاب. إن ثبات مقلتيه يدل على شرود ذهنه، فهو ينظر إلى الطفل ولا يبصره. أيفكر فيما فكرت فيه آنفاً؟ هل ألهمه الطفل ما ألهمنيه عن (الرمز)؟ هل قرأ (يوميات نائب في الأرياف) كما فعلت؟ أم تُراه يفسر الموقف بمنطق آخر وكتاب آخر؟ أيحمل في حقيبته هذه كتباً؟ أيقرأ في الأدب؟ أيَّ صنوف الأدب يفضل؟ ولمن يقرأ من الأدباء؟ طه حسين؟ . . العقاد؟ . . الحكيم؟ . . نجيب محفوظ؟ . . يوسف إدريس؟ هل يحب الشعر؟ ماذا يفضل: القصائد العمودية أم شعر التفعيلة؟ هل يمارس الكتابة في أي من فنون الأدب؟ إنه لا يزال يحملق في الطفل. أود أن أطلع على ما يدور بخلد هذا الشاب. ماذا لو انتقلت إلى جواره وحادثته ؟إن عمق نظرته تدل على . . . . . ." . . .
توقف القطار. وفي لمح البصر، نهض الشاب وانتشل الحافظة من يد الطفل وفر من القطار الذي ما لبث أن انطلق نفيره، واستأنف رحلته. ثارت في القطار عاصفة من اللعنات والسباب. وأقبلت العجوز على السيدة تهدئها وتلاطفها وتعرض عليها مالاً، فشكرت لها السيدة صنيعها.
ظل كمال جالساً بلا حراك، ذاهلا عما حوله، وكأنه عاجز عن إدراك ما يحدث.
ـ يا لحسن حظي! ألتقي بالأستاذ كمال مرتين في يوم واحد!
التفت كمال، فوجده سلامة. جاء مع من جاءوا من عربات القطار الأخرى عندما ذاع الخبز. ولما لم يحر كمال جواباً، جلس سلامة إلى جواره وسأله:
ـ ماذا حدث؟
فأجاب كمال بصوت خفيض متقطع:
ـ أخذ شاب حافظة نقود هذه السيدة وفر.
ـ انتشر لصوص القطار انتشاراً عظيماً.
ـ لصوص ؟!
ـ أي نعم. ألهم تسمية أخرى في رواياتك؟!
ـ خلته أديباً.
ـ أديباً ؟!
فاستطرد كمال وكأنه لم يسمع تعقيب صاحبه:
ـ إن عمق نظرته لا تكون إلا لأديب.
قال سلامة جاداً:
ـ أوصيك بالذهاب إلى طبيب أمراض عقلية.
توقف القطار ونزل سلامة. فقال كمال محدثاً نفسه:
ـ طبيب أمراض عقلية!!. أنا مجنون إذن!!!
ثم هامساً:
ـ أحدنا مجنون: أنا أو سلامة. . لا . . بل أنا أو الناس . . جميع الناس.
ظل مطرقاً، وارتفع صوته وهو يردد:
ـ الناس كلهم مجانين . . . مجانين . . . مجانين . . .
رفع وجهه المصفر، فوجد الناس مجتمعين أمامه يحدقونه بخوف وتوجس. أدرك أنه لم يكن يهمس. ازدرد ريقه بصعوبة. وظل ينظر إليهم.
* * *
(زينة وفلورة يا منديل . . . عشرة أرغفة يا عم أحمد . . . لله يا محسنين) . . . أفاق كمال من ذهوله على هذه الأصوات المألوفة لديه . قام لينزل من القطار، فتفرق الناس مفزوعين، وأفسحوا له الطريق. وما إن وطئت قدمه أرض المحطة حتى سمع صوتاً من داخل القطار لرجل عجوز يضرب كفاً بكفٍ ويقول:
ـ لعن الله شباب هذه الأيام. إما لصوص أو مجانين.
انطلق النفير، وتبعه الأزيز.
تمت
مارس 2007
مارس 2007
عدل سابقا من قبل Hossam في الأحد يوليو 06, 2008 4:35 am عدل 1 مرات