غرباء داخل جدران أربعة !!

أصبحنا بين يوم وليلة غرباء داخل بيوتنا‏..‏
تحولت البيوت إلي مجرد لوكاندات للنوم والأكل والشرب واللبس‏..‏ بلا حوار‏..‏ بلا حرارة‏..‏ بلا دفء‏..‏ بلا ونس‏..‏

انخرس صوت الحوار بين أعز الناس‏..‏ بين الزوج والزوجة‏..‏ بين الأب والأم وبين كل أفراد الأسرة‏..‏ خبت وربما انطفأت حرارة المشاعر والأحاسيس‏..‏ أصبح البيت مجرد حيطان باردة بلا دفء‏,‏ بلا حنان‏..‏

ما أقسي أن يشعر الإنسان بالغربة داخل الوطن‏..‏ فما بالك إذا تملكنا الشعور نفسه بالغربة‏,‏ بالاغتراب داخل البيت‏.‏

أهلا‏..‏ صباح الخير‏..‏ باي باي‏..‏ رايح الشغل‏..‏ جاي من الجامعة‏..‏ رايحة رحلة‏..‏ كنت في بارتي‏..‏ كنت في النادي‏.‏

لم يعد أحد يري أحدا‏..‏ حتي ساعة الغداء أو العشاء أو الإفطار نفسه‏..‏ كل واحد يأكل في حاله‏..‏ واندثرت الطبلية التي كانت تهم العائلة كلها حول رغيف الخبز وطبق الغموس‏!..‏

لا أحد يسمع أحدا‏..‏ لا أحد يطبطب علي كتف أخيه‏..‏ لا أحد يسأل البنت مالك سرحانة في إيه‏..‏؟ لا أحد يعرف في أي سنة دراسية أو حتي جامعية وصل إليها الولد أو البنت؟

أصبحنا نعيش في زمان الغربة‏.‏
الأب فيه يصرف ولا يعرف‏..‏

والأم فيه تداري ولا تداوي
والأولاد والبنات يركبون زورقا بلا قائد‏!‏

الاولاد مشغولون الآن لشوشتهم بالكمبيرتر والنت والبلاي ستيشن‏..‏

والبنات مشغولات لشوشتهن بالموبايلات والميسد كول ومعاكسات الشات اللعين‏!‏

ناهيك عن لبس المحزق والملزق والبلوزات الاستوماك التي تكشف البطن‏!!‏

والذي زاد وغطي دخول البنات نفق تخطي سن الزواج‏..‏ بلا زواج‏!‏ والدليل‏4‏ ملايين بنت بنوت فاتهن قطار الزواج‏!‏

لا شيء يتغير‏..‏
لا شيء يتبدل‏..‏
كل شيء علي حاله‏..‏ والدليل ما كتبته قبل عشر سنوات كاملة هنا في هذا المكان نفسه‏..‏ وكل ما قلته وكل ما رويته‏..‏ وكل ما جري فيه مازال كما هو‏..‏ وكأن الساعة قد توقفت وكأن الزمان لم يتحرك عن الأمس إلا إصبعا‏!‏

كما يقول شاعرنا العظيم أحمد شوقي‏!‏
**‏ هذا الجيل الذي نعده الآن للمستقبل والذي سيحكم مصر كلها وتكون له الكلمة العليا في كل أمور الدولة والوطن والناس بعد نحو ربع قرن من الآن‏..‏ تأكدت وبصمت بالعشرة أننا لم نعد لا نعرف عنه شيئا‏.‏

ولست وحدي الذي انتهي إلي هذا الاكتشاف المذهل‏..‏ ولكن من خلفي طابورا طويلا من عقلاء القوم فينا‏..‏

هذا الجيل لم نقترب من أحلامه مرة‏..‏
لم نتبادل معه الحوار مرة‏..‏

حتي الجسر الذي بيننا وبينه بالأبوة والأمومة وضعنا أمامه الحواجز والمتاريس‏..‏ حتي لا يتجاوز حدود العيب الذي زرعناه في صدره‏..‏ وأرضعناه وهو مازال في المهد صغيرا‏..‏

اوعي تعمل كذا‏..‏ وعيب تعمل كيت‏..‏ وغلط وألف غلط لو عملت كده أو رحت كده‏..‏ أو قلت كده‏..‏ اسمع اللام ياولد‏!‏

ولو كانت بنتا فالعيب أكبر والذنب أشد والمصيبة أعظم‏..‏ والويل وسواد الليل في انتظارها أين راحت ومع من تتحدث؟‏..‏ الأولاد شياطين أوعي تقربي منهم‏..‏ وكل الناس أشرار يترقبون الفرصة للوثوب عليها والغدر بها‏..‏ الخوف زرعوا بذوره في أعماقنا حتي قبل أن نبلغ الحلم‏..‏

وكما كانت تحكي لنا الجدات والأمهات والعمات والخالات والدادات والشغالات زمان في طفولتنا في القري والنجوع وحتي في المدن والبيوت والقصور‏..‏ عن أمنا الغولة وأبورجل مسلوخة‏..‏ والعفريت الذي يتحول في الليل إلي حمار ظريف لطيف جاهز للركوب بالسرج واللجام‏,‏ وبمجرد أن تركبه تطول أرجله حتي تجد نفسك في مساواة الأشجار والنخيل‏..‏ وحكايات النداهة التي تجيء إلي البيوت في الليل كأجمل ما تكون لتنادي علي الرجال وتصطادهم وتأخذهم معها بسحرها ودلالها وتغرقهم معها في البحر أو الترعة‏..‏

الخوف والعيب أصبحا رفيقي درب الصغار‏..‏ لا فراق بينهما ليل نهار‏..‏
وإذا أخذنا لهذين الرفيقين رفيقا ثالثا اسمه الوحدة والغربة داخل البيوت‏..‏ فإن حصادنا في النهاية‏..‏ هو جيل ملئ بالثقوب والعيوب النفسية قبل المادية‏..‏ علينا أن نقف ونواجه أنفسنا بالحقيقة المؤلمة‏..‏ التي تتمثل في هذا الفراغ الرهيب الذي يعيشه أبناؤنا‏..‏ فراغ في كل شيء‏..‏ فراغ فكري وثقافي وسياسي أيضا‏.‏

من منا جلس إلي أبنائه في جلسة حوار هادئ يستمع إليهم ويعرف كيف يفكرون‏..‏ وماذا يدور داخل رؤوسهم الصغيرة من أفكار وحكايات وطموحات وآراء وتطلعات‏.‏

من منا احتضن حماسهم واندفاعاتهم وأخطاءهم الصغيرة قبل أن تكبر وتصبح في حجم جبل المقطم؟‏!‏

كم دقيقة من وقتنا أعطيناهم وهم يتحدثون إلينا‏..‏ والأب ينهي المناقشة متضررا قائلا‏:‏ انت عاوز يا ولد تعمل رأسك برأسنا‏..‏ انت يا حبيبي لسه صغير شوف مذاكرتك الأول‏..‏ وانجح في الامتحان وبعد كده تعال اتكلم معايا‏!‏

ثم لا ينسي الأب أن يلتفت إلي الأم ويقول لها مؤنبا‏:‏ شوفي ياستي آخرة تربيتك في الأولاد عملت إيه؟‏!‏

وعندما لا يجد الابن أو الابنة أذنا صاغية عند الأب يتحولان إلي الأم التي عادة ما تداري ولا تداوي‏.‏

وماذا تفعل وحدها إذا كان رب البيت قد أوكل إليها مهمة الأولاد وتربية الأولاد ومذاكرة الأولاد والدروس الخصوصية للأولاد وفسحة الأولاد ودلع الأولاد‏..‏ وهرب بجلده واشتري دماغه بالذهاب إلي مكتبه أو أصدقائه أو إلي طائرة يركبها ويسافر بها بعيدا إلي بلاد يزيد فيها دخله وثروته وماله وصولجانه‏..‏

والأم هنا ماذا تفعل أكثر من كلمة حاضر ياحبيبي‏..‏ حاضر يا حبيبتي‏..‏ من عيني دي وعيني دي‏..‏ وتظل ترقع الأزمات وترتق المشكلات كما تفعل تماما مع البلوزات والشرابات‏..‏

وإذا كانت مشغولة لشوشتها بعملها أو جمالها أو منصبها أو فنها أو قلمها أو كرسيها أو مشاهديها ومعجبيها‏..‏ فالويل للأولاد‏..‏ فإن الأم المصونة والسنيورة الشحرورة سوف تفشل حتما في مهمتها‏..‏ فمن الصعب جدا علي المرأة حتي لو كانت امرأة حديدية أن تنجح في البيت والعمل ومع الزوج والأولاد‏..‏ فالحمل ثقيل واليد الواحدة لا تصفق‏..‏ إلا إذا وجدت العون من رب البيت ليتحمل معها جزءا من المهمة الصعبة‏,‏ أما أن يكون الرجل في واد والزوجة في واد‏..‏ فالضحية هنا هم الأولاد شئنا أم لم نشأ‏!‏

هل سأل أحد منا نفسه هذا السؤال؟
وهل قام جمع من العلماء وأولي الرأي فينا بالإجابة عنه وتحليل أسبابه ونتائجه

ألستم معي بعد هذا كله‏..‏ أن هناك حاجة غلط في علاقتنا بهذا الجيل الذي سوف يحكم البلد يوما ما‏..‏ وأننا ربما نكون نحن المخطئين وليس هذا الجيل المغلوب علي أمره‏!‏

وإذا كان هذا هو حال البيت المصري الآن‏..‏ من دلع وتدليل أحيانا‏..‏ ومن الابتعاد عن الأولاد‏,‏ وعدم مد جسور الحوار والتفاهم والحب والمصارحة بيننا وبينهم‏.‏

فالمدرسة هي الأخري‏,‏ كما يقول خبراء التربية والتعليم‏,‏ لم تعد واحة التربية والأدب والأخلاق الحميدة بعد أن انفلت عيار الأبناء بالتدليل أو بالقسوة‏..‏ بالغني الزائد أو بالفقر المدقع‏..‏ وأصبح حالها مثل حال المجتمع تماما فيها الطيب والقبيح‏..‏ طالب مشاغب ومدرس طماع نهاب لا يشبع من فلوس الأباء في الدروس الخصوصية‏,‏ وضاعت هيبة المدرس عندما مد يده إلي الطالب‏..‏ وانقطع جسر الحوار بين الطالب ومدرسه وكيف يكون هناك حوار داخل فصل تحول إلي علبة سردين من كثرة الزحام؟‏!‏

وهذا الجيل برغم أنه أذكي في رأيي من الأجيال التي طلعنا منها عشر مرات‏..‏ فإنه لم يقرأ كتابا‏..‏ ويحفظ آخر الأغنيات الهبابية المصرية‏..‏ ويعرف أسماء المطربين في مصر والعالم كله‏..‏ إلا أنه لا يعرف من هو طه حسين ومن هو العقاد‏..‏ أو توفيق الحكيم أو الرافعي أو المازني‏..‏ لأنه لم يقرأ لهم‏..‏ وكل همه أن يغرس عينيه في قنوات التليفزيون العربية والأجنبية وما يرسله الدش دون رقيب أو حسيب‏!‏
‏
*‏ ماذا تفعل إذا جاءت إليك ابنتك يوما وقالت لك ببساطة شديدة‏:‏ أنا أريد أن أتزوج من هذا الشاب؟

وهذا الشاب تكتشف أنت فيما بعد أنه ليس أهلا لها لا مركز ولا عائلة ولا مال ولا حسب ولا نسب‏..‏ ولكنه الحب اللعين‏!‏

ماذا أنت فاعل؟
تتركها تتزوجه‏,‏ وتريح مخك تماما من قرف ابنتك‏..‏ أم تقيم الدنيا وتقعدها وتصمم علي عدم إتمام هذه الزيجة؟

وماذا يحدث إذا فعل ابنك الشيء نفسه؟
هل تطرده من البيت وتقول له‏:‏ روح في ستين داهية‏..‏ اتجوزها بعيدا عني‏.‏

أم تمد له يد المساعدة والحب ومباركة الزواج؟‏!‏

أم‏..‏
هل تراقب أولادك وبناتك ولو حتي من بعيد لبعيد؟

هل أنت توجههم بطريقة غير مباشرة أم أن ما بينكما هو حوار الطرشان؟‏!‏
وماذا أنت فاعل إذا اكتشفت فجأة أن ابنك قد أصبح مدمنا للبانجو أو الحشيش أو الهيروين؟

وماذا أنت فاعل لو جاءك تليفون كالصاعقة من أحد أقسام الشرطة يقول المتحدث في ألم‏:‏ ابنك عندنا ضبطناه ضمن تشكيل عصابي من الشباب لسرقة السيارات؟‏!‏

كل هذا مطروح وحدث بالفعل لآباء كثيرين غيرك‏..‏ ولكن لأننا بعيدون كل البعد عن أبنائنا‏..‏ فنحن لا نصدق أن يفعلوا بنا هذا كله أو حتي بعضه في آخر العمر وبعد كل ما قدمناه لهم فماذا تركوا إذن للأولاد الذين لم يدخلوا مدارس وليس لهم أسر محترمة‏..‏ الأب في ناحية والأم في ناحية‏..‏ ويعيشون عيشة الكفاف؟

علينا أن نتوقع كل شيء وأي شيء في هذا الزمن الرديء‏!!‏

لكن أحدا منا لم يستعد لهذا اليوم الأسود‏..‏

لم؟
لأننا لم نقترب منهم بما فيه الكفاية‏..‏ بالحب والرعاية واحتضان الأمل والألم‏..‏ فانشغلنا عنهم بالسفر إلي بلاد الدنيا الواسعة من أجل مزيد من الدولارات واليوروهات‏..‏ ليس هذا هو كل شيء‏..‏
‏...............‏
‏..............‏
أين ذهب الحب والألفة وجلسة المساء والعشاء معا ولعب الكوتشينة في البلكونة والضحك البريء والقفشات الظريفة وحكاوي الشاطيء الجميل‏.‏؟

كنا قلب واحد ووجدان واحد وأمل واحد‏!‏
ومن عنده كلام آخر‏..‏ فليتفضل
والحديث مازال متصلا‏..{‏

المصدر : الأهرام - عـزت السـعدني