:: منتدى شبابنا ::

رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام 829894
ادارة المنتدي رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام 103798


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

:: منتدى شبابنا ::

رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام 829894
ادارة المنتدي رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام 103798

:: منتدى شبابنا ::

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
:: منتدى شبابنا ::

منتدى الشباب منتدى متكامل به كل ماتتمناه به اقسام للكمبيوتر اقسام للترفيه المرئيات قسم للخريجين الطلبة المنتدى الاسلامى قسم الديكور والكثير الكثير


3 مشترك

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 10:56 pm

    بسم الله الرحمان الرحيم
    و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

    ::::::::::::::::

    { رحلة الألف ميل... تبدأ بخطوة }

    مهما كانت الرحلة طويلة المدى و بعيدة الأمد، فإن بدايتها بالضرورة... خطوة
    و لولا تلك الخطوات الأولى المترددة و المضطربة في جميع الاتجاهات، لما كان السبيل...

    لكن رحلتنا معا عبر هذه الرواية ستكون مختلفة
    لن يكون إطارها الزمان أو المكان
    بل هي رحلة للعقل، و القلب و الروح...
    تأخذنا عبر دروب شائكة، من دروب التفكير... نحو الحقيقة...

    هل كان أبطال الرواية على وعي بخطواتهم ؟
    هل كانوا يدركون إلى أين تأخذهم و كيف سينتهي بهم المطاف ؟
    هل كانوا يمتلكون الخيار... أم أنهم مضوا مجبرين في تلك الرحلة ؟

    سنكتشف كل هذا و غيره من التفاصيل، عبر أحداث الرواية... رحلة الألف ميل... رحلة الحياة

    ملاحظة : الرواية مستوحاة من قصة حقيقية، تدور أحداثها بين نهاية القرن الماضي، و بداية القرن الواحد و العشرين
    بعض أبطالها توفي منذ سنوات قليلة، و البعض الآخر من أعضاء منتدانا العزيز
    و قد تكون لنا فرصة استضافاتهم أثناء الرواية أو بعد الفراغ منها

    الأحداث ليست كلها حقيقية، بل فيها الكثير من الخيال، نظرا لعدم اطلاعي على التفاصيل الكاملة،
    و من أجل الحبكة الدرامية... لكنني حافظت على المسار الرئيسي للأحداث الحقيقية...

    القصة أكثر من مؤثرة، مما دفعني شخصيا إلى محاولة تحويلها إلى رواية
    أعتبرها أكبر تحد أدبي لي إلى حد الآن، لأن طابعها مختلف تماما عن كل ما كتبته سابقا...
    و أسأل الله أن يلهمني حسن توصيل الرسالة... و يتقبل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم
    حتى يستفيد منها كل قارئ، و يستشعر المعاني العميقة التي خاضها الأبطال...

    وفقنا الله و إياكم إلى ما يحبه و يرضاه

    المصدر : http://forum.amrkhaled.net
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 10:56 pm

    نبذة تاريخية :

    معظم يهود تونس قدموا من إسبانيا في أواخرالقرن الخامس عشر للميلاد. لكن كتب التاريخ تحكي أن يهود جربة، الجزيرة التونسية، قدموا من المشرق بعد حرق معبدهم من قبل نبوخذ نصر ملك بابل و قائد جيوشها، قبل 2500 سنة... غزا القدس و أخرج اليهود منها، سبى نساءهم وأولادهم ونهب ثرواتها وأموالها و أنهى مملكة اليهود... فتوافد بعضهم على جربة، الجزيرة الساحرة، حيث استقر بهم المقام جيلا بعد جيل، حتى أنشؤوا أشهر دور عبادتهم "كنيس الغريبة" الذي أصبح قبلة اليهود من جميع أنحاء العالم و وجهة حجهم في القرون الأخيرة و الذي يعد أقدم معبد يهودي في إفريقيا و يقال أنه يحتوي واحدة من أقدم نسخ التوراة... و أقاموا الكثير من المعابد و المقامات التي تجاور المساجد، كما يجاور اليهود المسلمين... لكن عدد اليهود المقيمين في جربة في الوقت الحالي لا يتجاوز الألفين، و هم من أحفاد المهاجرين الأوائل الذين تشبثوا بالأرض و أقروا انتماءهم إلى البلاد التونسية، واندمجوا بين السكان و اكتسبوا عاداتهم و طباعهم، حتى لم يعد هناك من يميزهم عنهم، غير بقائهم على دين أجدادهم...



    *********




    مدت أشعة الشمس الساطعة خيوطها الذهبية، في ذلك اليوم القائظ من أيام الصيف التونسي، لتداعب الواحات و القرى المتناثرة و تدفئ ثناياها إلى درجة الالتهاب... و لم تكن جزيرة جربة التي تعانق أمواج البحر شواطئها الرملية، بأحسن حالا من باقي المدن الجنوبية... لكن الحرارة الملتهبة لم تمنع السائحين و أهل البلاد من ارتياد السوق العتيقة التي تتربع في طرقات "حومة السوق"، قلب جربة القديمة، و الانسياق عبر طرقاتها الضيقة في نسق بطيء متأن يحاكي نسق الحياة العامة في الجزيرة، و إيقاع رقصة "الشالة" التقليدية الهادئة التي تنساب في غير ضوضاء من بعض المحلات المتاخمة للسوق... فالزمن هناك، يتهادى في مشيته، كأنه يتخلى عن طابعه المستعجل و يكتسب مرونة ليست منه في شيء. إنها جربة... جزيرة الأحلام الحالمة، حيث للحياة طعم آخر و شكل آخر...

    وقف جوزيف قرب مدخل السوق و عيناه مسلطتان على البوابة الجانبية للمسجد الذي يبعد عنه بعض عشرات من الأمتار. أخرج منديلا ورقيا ليمسح حبيبات العرق التي تجمعت عند حاجبيه و هو يحوّل بصره ليتأمل باحة المسجد المفروشة بالرخام الأبيض و صومعته الباسقة التي ترتفع إلى عنان السماء... لم يكن يستطيع في كل مرة يقف فيها هذه الوقفة أن يخفي إعجابه بهندسة المسجد و تناسق أبعاده. فرغم أنه لا يحتوي على الزخرفة المعروفة في مختلف المساجد التونسية المشهورة، إلا أنه كان ذا طابع فريد، مثل كل مساجد جربة القديمة، بلونيه الأبيض و الأخضر و جمال ثناياه المتخلية عن كل أشكال البهرجة... و لم تكن روح البساطة لتنقص شيئا من سحر هذا الجمال، باستثناء الصومعة فإنها تظهر و كأنها الجزء الذي يجوز للمصمم أن يتصرف فيه ليطبع المَعلم بطابع يميزه عن بقية المعالم الجربية الأخرى...

    لكن جوزيف لم يفكر يوما في دخول المسجد، و لا يريد أن يفكر في ذلك... بل لعله يخشى أن يلمحه أحد معارفه يقف تلك الوقفة الغريبة فلا يسلم من تجريح أو تلميح... و مع ذلك، فإنه لا يزال يواظب على القدوم كل يوم جمعة ليصحب صغيرته إلى الصلاة و الدرس الأسبوعي، و يقف في انتظارها بدون ملل أو تعب...

    كانت الأصوات المختلطة القادمة من السوق تطرق مسامعه في حدة و تخرجه بين الفينة و الأخرى من تأملاته الهادئة المطمئنة. كثيرا ما يترك العنان لنفسه و تأخذه قدماه في جولة عبر السوق العتيقة، فيسرح بين الألوان و الروائح و الأشكال المبهرة. يتأمل رسوم الزرابي و المفروشات المصطبغة بشتى ألوان الطبيعة، و يتوقف أمام نقوش أواني الفخار التي تزدان بها جوانب الطرقات، و قد ينحني من حين إلى آخر ليقلب وردة من ورود الرمال الصخرية التي تختزل سحر المنطقة كلها و تنطق بإبداع الخالق الذي صور المكان و حسنه... لكنه سرعان ما يعود أدراجه بعد جولة قصيرة، فقد كان يخشى أن تخرج الصغيرة و لا تجده فتفزع. لذلك آثر في هذا اليوم الحار أن يقف عند ظل المبنى القريب، يعد الدقائق و يتابع عقرب الثواني البطيء تارة، و وجوه المارة تارة أخرى...

    ما لبث أن لمح الباب يفتح، و اندفعت جموع الفتيات إلى الخارج. أخذ يتفرس في الوجوه في ترقب قبل أن يلمح فتاته تجتاز العتبة و هي تجر ثوبها و تسوي خصلاتها المتمردة التي أطلت من تحت غطاء رأسها. اقترب منها مبتسما و هو يتحسس قطع الحلوى التي استقرت في جيب سرواله. تناول كفها و انحنى يقبل خدها في حنان و هو يدس قطعة الحلوى في كفها الآخر. رسمت الصغيرة ريما ابتسامة خفيفة على شفتيها و هي تسلمه كفها ليمضيا معا في الطريق إلى المنزل. كانت ريما تقترب من الرابعة عشرة من عمرها. لكن شكلها الضئيل و قامتها القصيرة يوحيان بأنها بالكاد تجاوزت الحادية عشرة، مما كان يعطي لجوزيف مبررا لتدليلها و المبالغة في الاهتمام بها...

    لم تكن قد بلغت التاسعة من عمرها حين توفيت والدتها. أما والدها فكان قد توفي قبلها بسنوات مخلفا عائلته الصغيرة تعيش الفاقة و الحرمان. و كان يجب على الأرملة الوحيدة أن تبحث عن عمل. لم يكن بإمكانها أن ترفض عرض جيرانها اليهود الأغنياء بالعمل عندهم كمدبرة منزل، فهم سيوفرون لها المسكن و المأكل و يتكفلون برعاية ابنتها الصغيرة حتى تواصل تعليمها و تنشأ في ظروف مناسبة. و لم يكن اختلاف الديانة ليغير في الأمر شيئا. ففي جربة يتعايش المسلمون و اليهود في سلام، دون أن يعتدي أحدهم على الآخر و دون أن يشكل الاختلاف العقائدي عائقا أمام المعاملات اليومية و نشأة العلاقات الوطيدة بين الجيران.

    نشأت ريما بين أحضان عائلة جوزيف اليهودية و هم يعتبرونها فردا منهم. فقد كانت بهجة البيت، الذي يقيم فيه الأبوان المتقدمان في السن و ابنهما جوزيف، و روحه النابضة بالحياة، بعد أن تزوجت ابنتهما الكبرى و سافرت مع زوجها إلى لبنان. و كان جوزيف أكثرهم تعلقا بها و حبا لها. كان شابا في الثانية و العشرين من عمره حين دخلت ريما ذات السنوات الخمس حياته. فصار يقضي جل أوقاته معها. يلاعبها و يداعبها... يقرأ عليها القصص و الحكايات و يستمتع بانفعالاتها البريئة و ضحكاتها العفوية... يشتري لها الألعاب و الهدايا، و يستغل أوقات العطل للسفر معها... و كانت والدتها تطمئن عليها بين يديه، و يسعدها أن يمنحها حنان الأب الذي تفتقده...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 10:57 pm

    كيف كان الدرس اليوم؟

    رفعت ريما رأسها لبرهة و همست بصوت منخفض :
    ـ جيدا...

    رفع جوزيف حاجبيه في استغراب. فمن عادتها أن تحدثه عن كلام الشيخ بالتفصيل و تسرد على مسامعه كل ما تحفظه من دروسها. لكنها اليوم بدت ساهمة، و كأن أمرا ما يشغل عقلها الصغير. فبالكاد أجابت على سؤاله بكلمة واحدة و عادت إلى إطراقها. لم يرد أن يضايقها بالإلحاح، فانشغل بتأمل واجهات المحلات في طريق "الحارة الكبيرة"، أحد أكبر الأحياء التي يقطنها يهود جربة...

    كانت والدتها قد أوصته بالحفاظ على دينها و عدم محاولة التأثير عليها. و هو يفعل ما بوسعه حتى يحترم وصيتها و يؤدي الأمانة على أكمل وجه. كانت والدتها تأخذها معها أيام الجمعة إلى المسجد لحضور الصلاة و الدرس الذي يليها، لذلك لم يفكر مطلقا في حرمانها من ذلك. كان يأخذها بنفسه، ثم يكتفي بالاستماع إليها و هي تحدثه عما تتعلمه من أمور دينها دون أن يطرح سؤالا واحدا، مع أن أسئلة كثيرة كانت تخامر ذهنه... فلم يكن يريد أن يدخل الشك إلى نفسها بخصوص دينها، كما أنه يعلم أن صغيرة ما في مثل سنها لا يمكن أن تحمل الإجابات على تساؤلاته المعقدة...

    وصلا إلى المنزل، فأفلتت الصغيرة كفه و انطلقت تركض إلى غرفتها. تابعها في صمت متعجب... إن تصرفاتها تبدو غريبة اليوم. هل هناك من ضايقها في المسجد أو أساء معاملتها؟ يجب أن يتأكد من ذلك. كان يهم باللحاق بها حين ظهرت تانيا عند الباب المطبخ و في عينيها نظرة غريبة. يعرف جيدا نظرة الاحتجاج تلك التي تطالعه بها زوجته في كل مرة يخصص قسطا من وقته لريما و ممارساتها الدينية. توجه نحوها مبتسما و هو يحاول تجاوز العاصفة المقبلة بسلام. فرغم مرور ثماني سنوات على زواجهما، إلا أن تانيا لم تتقبل تماما وجود ريما بين أفراد العائلة. فهي تبقى بالنسبة إليها دخيلة، و لن تصبح يوما من أصحاب البيت. طبع على خدها قبلة سريعة و هو يقول مداعبا :
    ـ رائحة شهية... ماذا تعد لنا الطاهية الماهرة؟

    كظمت تانيا غيظها بصعوبة و قالت و هي تمسح يديها في منديل المطبخ :
    ـ لم يعد لدينا لحم... و حين عدت لم أجدك في البيت حتى أطلب منك شراءه... لذلك فقد أعددت عجة بالبيض...

    رمت المنديل جانبا و غادرت المطبخ في خطوات عصبية. تبعها جوزيف في ارتباك و هو يقول مخففا :
    ـ لا عليك... لا بأس بالعجة... الأطفال يحبونها على كل حال!

    لم تلق تانيا بالا إلى تبريراته و مضت في اتجاه غرفتها، و لم تنس أن تغلق الباب بقوة وراءها. تنهد جوزيف و هو يهز كتفيه في تسليم. إنها المسرحية الأسبوعية نفسها، و لا سبيل إلى تلافيها. عادت نظراته لتستقر على باب غرفة ريما المغلق... هل يذهب إليها؟ ربما كان من الأفضل أن يدعها بمفردها لبعض الوقت...


    خطا باتجاه غرفة الجلوس. كانا طفلاه سارا و باسكال يجلسان على أرائك متقاربة و كل منهما منهمك في عمل ما حتى أنهما لم ينتبها إلى دخوله. كانت سارا ذات السنوات السبع تمسك بكتاب ضخم و تقرأ فيه بتركيز شديد، في حين انكب باسكال الذي يبلغ الخامسة من عمره على كومة من الأوراق و هو يتنقل بين الآلة الحاسبة و القلم... اتخذ جوزيف مجلسه أمام التلفاز الذي كانا مفتوحا على شريط وثائقي و تناول جهاز التحكم عن بعد دون أن ينطق بحرف واحد. فقد تعلم أن لا يزعج الصغيرين حين يدرسان. ضغط على زر التحكم ليغير المحطة، فجاءه صوت سارا و هي تهتف فجأة :
    ـ أبي... لا تغير المحطة! ألا ترى أنني أتابع؟

    التفت إليها في تعجب و أشار إلى الكتاب الذي بين يديها محتجا :
    ـ و لكنك تقرئين يا عزيزتي! لا يمكنك أن تركزي في عملين في وقت واحد!!

    عقدت الفتاة ذراعيها أمام صدرها و هي تقول في هدوء :
    ـ بلى يمكنني!

    رفع حاجبيه في دهشة فأضافت :
    ـ لكل شخص قدراته الخاصة...

    ابتلع لعابه بصعوبة و هو يتفرس في وجهها. في كل مرة تدهشه هذه الصغيرة أكثر، حتى أنه بدأ يشك في أنها ابنته! لم يكن يوما فائق الذكاء، بل لعله كان تلميذا ذا مستوى متوسط... لكن سارا كانت شعلة حقيقية. و قد أدرك نبوغها منذ وقت مبكر... كانت تانيا قد قرأت كثيرا عن تأثر الطفل بما يسمعه في فترة الحمل و في أولى سنوات عمره، فحرصت على الاستماع إلى الأشرطة العلمية و دروس تعليم اللغات الأجنبية... ثم ما إن بدأت سارا تتكلم حتى أخذت تعلمها الحساب و تحفظها الأشعار... و قد أبدت الصغيرة قدرة فائقة على الحفظ و التعلم و استجابت بشكل لا يصدق إلى جهود والدتها، حتى أنها أصبحت تتكلم العربية و الفرنسية و الانجليزية حين بلغت السادسة من عمرها!

    ـ ماذا تقرئين؟

    رفعت سارا الكتاب حتى يظهر العنوان المكتوب باللغة الفرنسية : علم الخلايا! هز جوزيف رأسه و هو يبتسم فأضافت سارا موضحة :
    ـ الشريط الوثائقي يتحدث عن نفس الموضوع، لذلك يهمني أن أسمع ما يقولون...

    ارتفع صوت باسكال قائلا، دون أن يرتفع رأسه عن الأوراق :
    ـ خمسة عشر ضارب ثلاثة و ستون...

    لم يدم تفكير سارا سوى ثانيتين اثنتين قبل أن تقول بصوت واثق :
    ـ خمس و أربعون و تسعمائة...

    ساد الصمت للحظات و لم يسمع سوى صوت أزرار الآلة الحاسبة و باسكال يقوم بالتأكد قبل أن يهتف منشرحا :
    ـ صحيح !!

    تنهد جوزيف مجددا و هو يضع التلفاز على المحطة التي أرادتها سارا، ثم غادر الغرفة و هو يحس باكتئاب... لم يكن يتصور أن يكون دوره كأب بهذا الشكل. فقبل مجيء سارا و باسكال، كان قد قضى أعواما رائعة و هو يرعى ريما و يهتم بها. و كان حينها يتلهف للقيام بدور الأبوة مع أبناء من صلبه و يتخيل كم سيكون ذلك بديعا... فإن كان حبه لريما الطفلة اليتيمة وصل إلى تلك الدرجة، فكيف ستكون حياته مع وجود أطفال من المرأة التي أحبها و رضيها زوجة؟! لكن أحلامه منيت بفشل ذريع... فسارا و باسكال لم يكونا أبدا طفلين عاديين، بل أنه يشك في أنهما امتلكا يوما براءة الأطفال و عفويتهم! لا يمكنه أن يلوم تانيا على استباقها المراحل مع أطفالها حتى أنهما لم يعيشا طفولة طبيعية، فهو لا ينكر فخره بهما أمام نظرات الناس الحاسدة... فليس هناك والدان في العالم لا يحلمان بطفلين من العباقرة كما هو حال طفليه!! لكنه في نفس الوقت يدرك أن ذكاءهما و اهتماماتهما المتطورة يجعلانهما يستغنيان عن حبه و رعايته... فهو يعلم أنه لا يمكنه تقديم الكثير إليهما، عدا شراء الكتب و توفير الأجواء لمناسبة للتحصيل العلمي... بل لعله في كثير من الأحيان يتعلم منهما و من قدراتهما.

    و لم يكن هناك سوى ريما... هي وحدها تشعره بحاجتها إليه و إلى رعايته... يحس بالإعجاب في عينيها حين يحكي لها حكاية قبل النوم أو يساعدها في حل المسائل الحسابية. وحدها لا تزال تستحوذ على القسم الأكبر من اهتمامه، لأنها تبقى في نظره الشخص الأقرب إلى قلبه و محرك مشاعره...

    قادته قدماه إلى غرفتها المغلقة. طرق الباب بهدوء، فجاءه الإذن بالدخول... أطل برأسه في مرح و هو يقول :
    ـ ماذا تفعل صغيرتي الشقية؟ الغداء سيكون جاهزا بعد قليل...

    لكن مرحه سرعان ما انطفأ حين رأى ريما تجلس على طرف السرير و قد ضمت ساقيها إلى صدرها و أحاطتها بذراعيها في وضعية كئيبة. تقدم نحوها في جزع و قد لاحظ نظراتها المنكسرة. جلس إلى جانبها و وضع يده على كفها في حنان و هو يهمس :
    ـ ريما... ما بك؟ هل هناك ما يزعجك؟

    ظلت الطفلة مطرقة، و تمتمت بصوت ضعيف :
    ـ بابا يوسف...

    كم يحب أن تناديه "بابا يوسف" فقد عودها على ذلك منذ صغرها، و كان ذلك أول عهده بالأبوة... و ظل يحتفظ بتلك المشاعر لها وحدها. و كان يسعدها أن تناديه باسمه المعرب، أو كما ورد في القرآن. و لم يكن هو يمانع أبدا، طالما كان في ذلك إرضاء للصغيرة. رنا إليها في اهتمام :
    ـ نعم صغيرتي...

    رفعت إليه عينين مليئتين بالدموع و هتفت في تأثر :
    ـ أنا أحبك كثيرا...

    تسارعت دقات قلبه أمام اعترافها البريء الذي اخترق قلبه و زلزل كيانه. كان يعلم أنها تحبه و تعتبره والدها، فقد كفلها و هي في سن صغيرة، و أصبح كل عائلتها بعد وفاة والدتها. لكن تصريحها جاء في وقت حرج... في وقت يفتقد فيه حب و عطف أسرته الحقيقية. لم يتمالك نفسه أن أحاطها بذراعيه و ضمها إلى صدره في حنو و هو يتمتم بصوت متقطع :
    ـ و أنا أيضا... أحبك... جدا...

    كانت ريما تبكي بحرقة على صدره و هو لا يفهم سبب بكائها. أبعدها قليلا عنه و نظر في عينيها في توسل :
    ـ ريما، حبيبتي... أخبريني ما بك؟ هل هناك ما يؤلمك؟

    هزت رأسها نافية، فألح في السؤال :
    ـ هل أزعجك أحد؟

    هزت رأسها مجددا علامة النفي، و أطرقت في تردد... لكنها رفعت عينيها إليه مجددا بعد لحظات و قالت بصوت متهدج :
    ـ أنا خائفة عليك... لا أريد أن تذهب إلى النار...

    اتسعت عيناه دهشة و ارتخت ذراعاه من حولها و ظل يحدق فيها بعدم استيعاب، فتابعت في إصرار :
    ـ الشيخ يقول بأن من لا يؤمن بدين الإسلام يذهب إلى النار... و أنا أحبك كثيرا و لا أريدك أن تذهب إلى النار...

    ـ و لكن يا صغيرتي... ألم نتفق أن لك دينك... و لي ديني، و نحن نؤمن بإله واحد؟

    أومأت برأسها موافقة، ثم هتفت مستدركة :
    ـ و لكن الدين عند الله الإسلام!

    عبس جوزيف في انزعاج و هو يقول :
    ـ من الذي قال ذلك؟ هل هو الشيخ؟ لا شك أنه رجل متعصب... ربما من الأفضل أن تنقطعي عن دروسه و نبحث عن شيخ آخر أكثر انفتاحا على الديانات الأخرى...

    لكن ريما أطرقت في هدوء و قالت في حزن :
    ـ بل القرآن هو الذي يقول ذلك...

    نهض جوزيف من فوره و لم يعلق...
    لكنه أدرك أن ريما دخلت مرحلة جديدة في تعاملها مع دينها... مرحلة النقاش و محاولات الإقناع، و هو لم يتجهز لمواجهة هذه المرحلة بعد...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 10:58 pm

    دخلوا قانا كأفواجِ ذئابٍ جائعة...
    يشعلونَ النّار في بيتِ المسيح
    ويدوسونَ على ثوبِ الحسين
    وعلى أرضِ الجنوب الغالية...

    // (نزار قباني) //

    :::::::::::::::::::::

    ضغط حسان على مزود السرعة بقوة و هو ينطلق في الطريق الريفية غير الممهدة... إن حافظ على سرعته تلك يمكنه الوصول إلى مدينة قانا قبل غروب الشمس. التفت إلى صاحبه الذي تكور على نفسه من الألم على الكرسي المجاور و هتف مشجعا :
    ـ أحمد... سنصل قريبا... يمكنك أن تقاوم أكثر...



    كان أحمد يضغط بجبينه على حاجز السيارة الأمامي و هو يحاول كتمان صرخة الألم التي يحترق بها حلقه. كان يحس بانفجارات صامتة تحصل في خلايا ساقه التي أصابتها قذيفة إسرائيلية، و تزيد من أوجاعه لحظة بعد لحظة... أغمض عينيه في إعياء، فسالت دموع حارقة على وجنتيه تشي بمعاناته. و رويدا رويدا، بدأ يفقد الإحساس بالأشياء من حوله... قاوم باستماتة الضباب الذي أخذ يلف عقله و يسحبه إلى قعر الغيبوبة...

    انتبه حسان إلى تلاشي قواه و تهاوي أوصاله، فأخذ يهزه في عنف يحركه الخوف :
    ـ أحمد... أحمد... ابق مستيقظا... سنصل قريبا...


    حرك أحمد ذراعه ليشعره بحضور عقله و استمرار مقاومته، فتنهد حسان و هو يعود إلى التركيز على القيادة. أخذ يتذكر السويعات القليلة الماضية في تأثر. كانا في مهمة في أراضي الجنوب... الأراضي التي تحتلها القوات الإسرائيلية منذ مارس 1978. لم تكن أول مهمة لهما معا، فقد انضما إلى المجموعة في أوقات متقاربة و بسرعة تم التآخي بينهما في الله، و صارا يشتركان في التدريب و العمليات... لكن هذه كانت أول عملية حقيقية، في الأراضي المحتلة. تم كل شيء مثلما خطط له، و نجحا في زرع أجهزة التصنت و العدسات الخفية وسط الأحراش لمراقبة تحركات العدو. انسحبا بهدوء من المكان دون أن يلاحظ تسللهما أحد و ظنا أن النجاح كان حليفهما... لكن في رحلة العودة، حصل ما لم يكن في الحسبان. فقد انفجرت قذيفة في مكان قريب منهما و تناثرت الشظايا المعدنية لتصيب أحمد في ساقه إصابة بليغة. اختبآ بين الأحراش لبعض الوقت قبل أن يتمكنا من الهرب باتجاه السيارة التي أخفياها في مكان قريب...

    كان قد تجاوز إحدى القرى المتاخمة لقانا، و دخل المدينة منذ دقائق. راح يجيل بصره في الشوارع الهادئة في توتر و هو يبحث عن أقرب مستشفى يمكنه أن يتوقف عندها... ليت أحمد كان أكثر وعيا، فهو يعرف المدينة جيدا... نشأ فيها مع عائلته و لم يغادرها إلا من أجل الدراسة الجامعية. فجأة سمع صوت انفجار مكتوم، تلاه أزيز عنيف مع انهيار السيارة على جانبها الأيمن... صرخ حسان في غيظ :
    ـ الإطار انفجر... لا حول و لا قوة إلا بالله...

    أخذ يضغط على الفرامل في هدوء عجيب مناقض للموقف العصيب... يعلم جيدا أن أي توقف مفاجئ سيؤدي حتما إلى انقلاب السيارة رأسا على عقب! و أخيرا توقفت السيارة بعد أن قطعت مسافة لا بأس بها. نظر حسان إلى صديقه في قلق... ما العمل الآن؟
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:00 pm

    كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، و إن لم يكن الظلام قد خيم تماما، فاصطبغت سماء قانا بلون الشفق و عكست احمرارها على واجهات المباني. تسللت خيوط الشمس الأخيرة عبر زجاج النافذة المغلقة، لترسم بقعا مضيئة على أرضية غرفة الجلوس، حيث جلست ندى على الأريكة تشاهد شاشة التلفاز في ملل... لم يكن في البيت غيرها و أختها دانا، فقد سافر والداهما لحضور زواج بعض الأقارب في بيروت و لن يعودا قبل يومين. كانت دانا تطالع جريدة الأمس في اهتمام. بل لعلها قرأت الملف الخاص بالمقاومة اللبنانية، و الأحداث الأخيرة التي هزت الساحة السياسية، مرات و مرات محاولة دراسة هذه الظاهرة... و لم يكن ذلك غريبا بالنسبة إلى طالبة علم الاجتماع المجتهدة. رفعت رأسها فجأة و قالت كأنها تخاطب نفسها :
    ـ إنه لشيء مبهر حقا... كل هؤلاء الشباب الذين يتركون عائلاتهم و مستقبلهم و ينضمون إلى جيش مبتدئ لا يعترف أحد بمشروعيته و يضحون بأنفسهم بدون نتائج تذكر !!

    ألقت عليها ندى نظرة احتجاج، ثم قالت في ثقة :
    ـ إنهم يدافعون عن وطنهم... و لا يهمهم أن يعترف بهم أحد طالما كانت قضيتهم عادلة...

    ثم أضافت في تهكم تشوبه مرارة :
    ـ طبعا ليس غريبا ألا ندرك ما يحركهم... فنحن لم نعرف معنى الوطن...

    حدجتها دانا بنظرة غاضبة و قالت و هي تطوي الجريدة و تلقي بها جانبا :
    ـ نحن لبنانيون... و لبنان وطننا... على الأقل في الوقت الحالي...

    هزت ندى كتفيها في لامبالاة. لكنها في داخلها لم تكن تستهين بالأمر إلى تلك الدرجة... بل إنها لتستشعر يوما بعد يوم المزيد من الإعجاب بشباب المقاومة البواسل. تحس بإيمانهم بقضيتهم و تصميمهم على إعادة الحرية إلى أراضيهم المسلوبة... لكنها لم تستطع أبدا أن تعلن عن تعاطفها معهم و استهجانها للعدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان. فذاك كفيل بإعلان الحرب عليها داخل العائلة، حيث لكل رؤيته المختلفة للصراع اللبناني الإسرائيلي...

    لم يكن قد مر سوى عامان اثنان على المجزرة الإسرائيلية التي عرفتها المدينة... مجزرة قانا.
    "عناقيد الغضب" اسم رواية أميركية شهيرة كتبها (جون شتاينبك) واسم عملية عسكرية إسرائيلية ضد لبنان عام 1996، أهدافها معلنة وغير معلنة تجتمع في هدف واحد هو ضرب المقاومة اللبنانية ومحاولة القضاء عليها... أسلوبها الحرب عن بعد، حملة جوية شاملة وقصف من البر والبحر دون توغل بري، قصفت مدن لبنان وقراها خلالها بما لا يقل عن عشرين ألف قذيفة وانتهكت سماؤه بأكثر من خمسمائة غارة جوية حصيلتها خمس مجازر، آخرها و أعنفها مجزرة قانا. القوات الإسرائيلية قصفت سيارة إسعاف و مركز وحدة الطوارئ الدولية لتسقط ما يزيد عن المائة من نساء و أطفال قانا. لا تزال ندى تذكر تلك الحادثة التي تركت في نفسها الفتية أعمق الأثر... هي الفتاة اليهودية ذات الستة عشر عاما. أيقنت منذ ذاك الحين أن المقاومة لا تلام على شيء مما تفعله لتحرير الأراضي المغتصبة. و أيقنت أيضا أنها و إن كانت يهودية، فإنها لن تنتمي يوما إلى الفكر الصهيوني! فاحتلال أرض الغير و قتل المدنيين العزل هو دون شك عمل إرهابي، مهما ادعت أمها بأن السياسة تقتضي بعض التجاوزات، و مهما ادعى والدها أن ما يحصل يتجاوز تفكيرها المحدود...


    فجأة تعالى صوت جرس الباب بحدة كأن أحدا ما يستعجل الفتح. تبادلت ندى و دانا نظرات متسائلة، فهما لم تكونا تنتظران زوارا... و ما لبثت ندى أن هبت في رشاقة لتفتح الباب و هي تسوي غطاء رأسها...

    فتحت ندى الباب و تطلعت إلى الشبحين الذين وقفا عند باب الحديقة، و قد كادت ستائر الظلام التي أسدلت لتوها تطمس ملامحهما. لكنها تبينت شكليهما من موقفها ذاك. كان أحدهما يبدو غائبا عن الوعي تقريبا و قد أحاط صاحبه خصره بذراعه اليمنى، في حين شده من ذراعه اليسرى التي مررها خلف عنقه حتى يساعده على الوقوف. تسارعت دقات قلبها و قد أيقنت أنها مقبلة على مغامرة ما... فقد تعرفت على الفور على الوشاح الذي يتدلى على صدر أحدهما و يستعمل كلثام في العمليات الجهادية. تسمرت أمام الباب في تردد و هتفت من مكانها :
    ـ من هناك؟

    أجابها الشاب في لهفة :
    ـ أختاه... عذرا على الإزعاج في هذه الساعة... لكن أخي مصاب في ساقه، و السيارة تعطلت بنا في شارعكم و لا يمكننا الوصول إلى المستشفى... نحن غرباء عن المدينة... فهل يمكن لوالدك أو أحد إخوانك أن يمد لنا يد المساعدة لإيجاد طبيب قريب...

    وقفت للحظات و تفكيرها يعمل بسرعة لإيجاد حل مناسب، و سرعان ما هتفت قبل أن تغيب في الداخل :
    ـ انتظر قليلا...

    دخلت بخطوات سريعة و توجهت مباشرة إلى درج الخزانة في غرفة والديها و أخذت تفتش في محتوياته في توتر. جاءها صوت دانا من قاعة الجلوس مستفهمة :
    ـ من الطارق؟

    ردت ندى بصوت متلعثم من الاضطراب :
    ـ آه... الجيران...

    ـ الجيران؟ و ماذا يريدون؟

    أجابت ندى و هي تمسك بمفتاح المستودع في ظفر :
    ـ بعض الأدوات من المستودع...

    ثم خرجت مسرعة مجددا. تقدمت في اتجاه باب الحديقة و فتحته، ثم أشارت للشاب بأن يتبعها إلى الداخل. لم تكن إلى تلك اللحظة قد لمحت جرح الشاب المصاب، لكن حين فتحت الباب انقبض قلبها حين وقعت عيناها على ساقه التي فتحت بجرح عميق مازال ينزف. بدا على الشاب السليم التردد، لكنها التفتت إليه بعد أن تقدمت بضع خطوات و هتفت :
    ـ من هنا أرجوك...

    لم يجد بدا من تعقب خطواتها. سارت بمحاذاة جدار المنزل، ثم استدارت باتجاه الحديقة الجانبية... و في أقصى الحديقة الخلفية، كان هناك مستودع تستعمله العائلة لركن قطع الأثاث القديمة و الكتب و الجرائد و غيرها من أدوات البستنة و النجارة... لم يكن المكان في غاية النظافة، لكنه كان مرتبا. التفتت إليهما ندى في حرج و قالت :
    ـ أعلم أن المكان ليس مناسبا... لكن لا يمكنني إدخالكما إلى المنزل...

    هز الشاب رأسه متفهما. لكن في تلك اللحظة، وقعت عيناه على نجمة داود التي تدلت من سلسلة فضية أحاطت عنقها، فاتسعت عيناه دهشة. انتبهت ندى إلى تغير ملامحه، لكنها تجاهلت الأمر و أسرعت بجلب طاولة قديمة و كرسيين خشبيين و هي تهتف :
    ـ يمكنك أن تجعله يستلقي على الطاولة... سأستدعي الطبيب فورا...

    خرجت ندى من المستودع فتابعها حسان بنظراته في استغراب متزايد... إنها يهودية! لا شك في ذلك... و لكنها استقبلتهما دون تردد، و هي بالتأكيد تدرك إلى أي جهة ينتميان. هل يكون في الأمر خدعة ما؟ يجب أن يكون حذرا في تعامله معها... لكن ليس لديه خيارات كثيرة. انتبه في تلك اللحظة إلى جسد صديقه الذي يكاد ينهار على الأرض. رفعه بصعوبة ليستلقي على الطاولة كما طلبت منه ندى، و أخذ يمسح وجهه الذي كساه العرق. كانت علامات الألم واضحة على وجهه... لم يفقد الوعي بعد. ناداه بصوت خفيض :
    ـ أحمد... هل تسمعني؟

    ندت حركة بسيطة من أحمد تدل على استجابته إلى النداء، و فتح عينيه قليلا

    ـ لا تقلق... سيصل الطبيب قريبا...

    لم يكن واثقا من ذلك تمام الثقة، لكنه عض على شفته السفلى و هو يبتهل إلى الله أن يكون ذلك صحيحا... كانت قد مضت ربع ساعة تقريبا على خروج ندى حين فتح الباب مجددا و ظهرت الفتاة مبتسمة. نظر إليها حسان في تحفز و تشنجت أعصابه حين لمح الرجل الذي يتقدم من ورائها. لكنها سارعت بالتوضيح قائلة و هي تفسح المجال للرجل :
    ـ لقد طلبت المساعدة من أخي... يمكنه أن يعاين جرح المصاب...

    حدق حسان في عدم استيعاب في الرجل الذي ارتدى زي راهب كنيسة و صليب من الحجم الكبير يتدلى من عنقه. كان في الأمر خلل ما... في البداية فتاة يهودية تدخلهم بيتها، ثم تستعين براهب مسيحي لعلاج الجرح، و تقول بأنه أخوها !! تقدم الراهب الشاب في صمت إلى الطاولة و هو يمسك حقيبة الإسعافات الأولية. فتحها بحركة بطيئة و تناول قفازات نظيفة، كأنه جراح حقيقي. أضافت ندى بصوت منخفض :
    ـ ميشال درس التمريض قبل أن يلتحق بخدمة الكنيسة... و هو بارع في تقطيب الجراح...

    بدت الدهشة على حسان و هو يراقب عمل الراهب الدقيق و الهادئ. عاين ميشال الجرح في اهتمام ثم بدا على وجهه الانزعاج :
    ـ ليس الأمر بالسهولة التي توقعتها... لا يمكنني خياطة الجرح قبل تنظيفه من الداخل...

    اقتربت ندى و أطلت برأسها من وراء كتفيه لتنظر بدورها. لكنها تراجعت بسرعة و هي تتمتم :
    ـ ربما يجب أن نأخذه إلى المستشفى...

    ـ ما يمكنهم تقديمه في المستشفى لن يكون أفضل مما يمكنني فعله... سأنظف الجرح بنفسي... لكن بدون تخدير...

    قال ميشال تلك الكلمات بنفس الهدوء و هو يتناول المقص الطبي، ثم رفع عينيه إلى حسان و أشار قائلا :
    ـ ثبته على الطاولة من كتفيه حتى لا يتحرك... ستكون العملية مؤلمة... و دقيقة...

    ثم التفت إلى ندى و هو يتابع :
    ـ ندى أرجوك، أمسكي ساقه جيدا حتى أنتهي من إخراج قطع المعدن من الجرح...

    عضت ندى على شفتيها في ألم و هي تمد يدها في اضطراب لتشارك في العملية. أما حسان فقد قرب شفتيه من أذن صاحبه و همس مطمئنا :
    ـ أحمد... اثبت أرجوك... ستتألم قليلا لكن كل شيء سيكون على ما يرام

    ـ خذ هذا... ضعه في فمه...

    رفع حسان رأسه، فوجد ميشال يمد إليه قطعة قماش خشنة. تناولها و قد فهم الغرض منها. انحنى على أذن أحمد مجددا و هو يهمس :
    ـ تجلد أرجوك... اضغط بأسنانك على هذه، حتى لا تؤذي نفسك...

    فتح أحمد عينيه لبرهة، و قد بلغ منه الوهن مبلغه... لكن بعد لحظات، تعالى صراخه المكتوم بقطعة القماش، و أخذ جسده في الاهتزاز بعنف من الألم بعد أن شرع ميشال في العبث بأدواته الحادة في ساقه. كانت ندى في غاية التأثر. تشد بقبضتها على الساق المصابة لتثبتها على الطاولة، و تخفي بكفها الأخرى وجهها حتى لا تقع عيناها على الجرح المفتوح. لكنها لم تستطع أن تمنع عبراتها من التسرب و الأنين العميق الذي يطلقه أحمد يملأ أذنيها... كان حسان هو الآخر ممتقع الوجه. يمسك بكتفي صديقه بقوة حتى يشل حركته، لكنه لم ينجح في منع جسده من الاضطراب... حتى ارتخى أخيرا و غاب عن الوعي...

    رفع ميشال رأسه و هو يتنهد، ثم نزع القفازات التي اصطبغت بالدماء و وضعها في كيس بلاستيكي بكل حرص. ثم قال و هو يتناول الضمادات القطنية و يلف بها الساق التي انتهى من خياطة جرحها للتو :
    ـ سيستيقظ بعد بضع ساعات... يلزمه بعض الراحة قبل أن يتمكن من السير بصفة طبيعية...

    أعاد جمع أدواته في الحقيبة الطبية، ثم سار إلى الخارج تتبعه ندى. تنهد حسان في ارتياح و هو يتأمل وجه صاحبه الهادئ. سيكون بخير... قلبه يحدثه بأنه سيكون بخير... لقد نجا من الخطر الحقيقي، و سيستيقظ عند الصباح و هو أحسن حالا...

    انتبه حين وصله صوت حديث قادم من الخارج لم يتبينه جيدا. اقترب من باب المستودع الخشبي في حذر فأصبحت الأصوات أكثر وضوحا. جاءه صوت ميشال و هو يهتف في حدة :
    ـ هل تدركين جيدا ما الذي تفعلينه؟ كيف تدخلين رجلين مشبوهين إلى المنزل في غياب والديك؟

    كان صوت ندى أكثر هدوءا و هي تقول :
    ـ أخفض صوتك... سيسمعانك! أنت ترى جيدا أنني أدخلتهما إلى المستودع و ليس إلى المنزل... كما أنني لم أستطع طردهما و أحدهما مصاب... ظننت أن عملك في الكنيسة سيجعلك أكثر تسامحا...

    ـ لكن وجودهما هنا فيه خطر... لقد حل الظلام... هل فكرت في ردة فعل والديك إن علما؟

    ـ بابا جورج سيكون متفهما...

    ـ لكن أمك لن تكون كذلك!!

    ساد الصمت للحظات، و قد بدا على ندى التفكير. أطرق حسان في تفكير هو الآخر... لكن ما لبث أن جاءه صوت الفتاة مجددا و هي تقول في حزم :
    ـ إذن لا يجب أن تعلم! و دانا كذلك...

    ـ دانا؟! أليست في المنزل؟

    ـ بلى... لكنني كذبت عليها... قلت أن الجيران يحتاجون إلى أدوات من المستودع...

    لم يعلق ميشال، فأردفت ندى في رجاء :
    ـ أنت لن تخبر أحدا، أليس كذلك؟ على أية حال سيغادران قبل عودة والدينا...

    تأخر رد ميشال للحظات قبل أن يقول و صوته يبتعد :
    ـ حسن... سأعود بعد قليل...

    لحقته ندى و هي تهتف :
    ـ هل اتفقنا؟
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:01 pm

    عاد حسان إلى مجلسه على المقعد الخشبي القديم بعد أن اختفت الأصوات تماما. تنهد و هو يطالع وجه أحمد في حنان. كانا يدركان جيدا الخطر الذي يواجهانه، لكن ذلك لم يمنعهما من المجازفة... طالما كانت قضيتهما عادلة و هدفهما مشروعا. كتب الله لهما النجاة بأعجوبة... فلا يزال في العمر بقية... تجهم وجهه حين تذكر ما حصل في نهاية المطاف. لا شك أن الجنود قد فتشوا المكان جيدا بعد أن تفطنوا إلى تسللهما. و لا شك أنهم قد عثروا على آلات التصنت التي أخفاياها... فشلت العملية!

    التفت حين سمع صرير الباب و هو يفتح من جديد. كانت ندى قد عادت و هي تحمل عددا من الأغطية و الوسائد. هب ليستلمها منها و اشتركا في لف جسد أحمد و تدثيره و الصمت يخيم عليهما.

    ـ سيكون أفضل هكذا...

    أومأ برأسه موافقا، ثم قال متغلبا على تردده :
    ـ آنسة ندى...

    رفعت رأسها في تساؤل فاستطرد و هو يغض بصره في حياء :
    ـ آسف لكل ما سببناه لك من متاعب... و شكرا جزيلا على كل ما قدمته لنا...

    ـ هذا واجبي...

    قالت ذلك و هي تستدير لمغادرة المكان في ارتباك. كان من الواضح أنه استمع إلى جزء من حديثها مع ميشال... لكنها توقفت حين وصلت إلى الباب و قالت دون أن تلتفت :
    ـ هناك ما يكفي من الأغطية لك أيضا... الليلة باردة...

    ثم اختفت مجددا تاركة حسان في حيرة متزايدة.




    *********


    دخلت ندى المطبخ على عجل و هي تفكر فيما يمكنها تقديمه لضيفيها. كانت قد أعدت طعام العشاء لها و لدانا، لكن الكمية كانت كافية لشخصين فقط... لا شك أن الشابين جائعان و متعبان. خاصة أن أحدهما نزف كثيرا و سيحتاج إلى وجبة جيدة حين يستيقظ. أخرجت قطعة لحم من الثلاجة و شرعت في تقطيع الخضروات في همة و نشاط...

    ـ ندى... ماذا تفعلين؟

    التفتت حين جاءها صوت دانا التي دخلت المطبخ للتو
    ـ ما الذي يحصل؟ منذ ساعة و أنت تدخلين و تخرجين... و الآن تحضرين عشاءا جديدا!

    أجابت ندى في هدوء :
    ـ ميشال سيقضي الليلة معنا...

    بدا على الاستغراب على دانا و هي تقول :
    ـ ميشال؟! لكنها ليست المرة الأولى التي يسافر فيها والدانا و نقضي الليلة بمفردنا... لم نعد صغيرتين حتى يقلق ميشال بشأننا... كما أنه من الأفضل أن يضل إلى جانب زوجته التي تخشى المبيت بمفردها !

    هزت ندى كتفيها متظاهرة باللامبالاة و هي ترد :
    ـ قال أنه سيأتي... و لا يمكننا أن نرفض زيارته... لذلك علي أن أعد طبقا آخر... فما لدينا لا يكفي...

    لوت دانا فمها معبرة عن تذمرها، ثم غادرت المطبخ لتعود إلى مجلسها أمام التلفاز. تنهدت ندى في ارتياح بعد أن اطمأنت إلى انطلاء الحيلة على دانا. ثم تركت ما بين يديها و سارعت بتجهيز الحساء الذي حضرته مسبقا. ستقدمه إلى ضيفيها و تعود لتتم تحضير عشاء أخويها. حملت الطبق و تسللت في هدوء... ستستعمل المدخل الخلفي المفضي إلى الحديقة حتى تتفادى المرور أمام غرفة الجلوس.

    طرقت باب المستودع بلطف ثم دخلت و قد سبقتها رائحة الحساء الشهي. وقف حسان على الفور و قد تزايد تأثره... تابعها و هي تضع الطبق و قنينة الماء على المقعد الخشبي الخالي في عناية. لكنها استدارت لتنصرف على الفور دون أن تقول كلمة واحدة. فلم تكن تريد أن تثير شكوك دانا أكثر من ذلك...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:01 pm

    فتح جوزيف عينيه في فزع و استوى جالسا في فراشه و هو يلهث بشدة. ظل يحدق أمامه في الفراغ و هو يضع كفه على صدره، محاولا السيطرة على انفعاله... كان كابوسا مريعا. ألقى نظرة على تانيا التي كانت تغط في نوم عميق. لم توقظها حركته فلطالما كان نومها ثقيلا، على عكسه تماما... لكنه هذه الليلة يجد نفسه أكثر اضطرابا. أزاح اللحاف و غادر الفراش. سار على أطراف قدميه إلى الباب الغرفة و فتحه في هدوء و الكلمات الأخيرة التي سمعها في كابوسه لا تزال ترن في رأسه... كان البيت هادئا تماما. حانت منه التفاتة إلى الساعة الحائطية في الممر. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة بعد منتصف الليل ببضع دقائق. سيقوم بجولة ليتفقد الأطفال ثم يخلد إلى النوم من جديد... لازال أمامه بضع ساعات قبل موعد العمل.

    كانت الغرفة الأقرب إلى غرفته هي غرفة باسكال... فتح بابها و أطل برأسه. كان الصغير نائما و قد انحسر عنه الغطاء. أعاده إلى وضعه و سحب منه الآلة الحاسبة التي كان يحتضنها. ابتسم في خبث و هو يتناول دمية دب من الحجم الكبير من بين الدمى المصففة على رف الخزانة في نظام. كان قد اشتراها له منذ سنتين، لكنه لم يره يلهو بها أبدا... وضعها إلى جانب الولد و جعل ذراعه تحتضنها. ثم انصرف في رضا...

    كان يهم بدخول غرفة سارا حين تناهى إليه همهمة منخفضة قادمة من غرفة ريما الواقعة في الجانب الآخر من المنزل. اقترب في حذر، فلمح ضوءا صادرا من الفتحة تحت بابها. يبدو أنها مستيقظة في هذا الوقت! أدار مقبض الباب و فتحه بلطف... تسمر في مكانه حين لمح الفتاة تجلس على سجادتها و تمسك بين يديها كتاب القرآن. كانت تقرأ منه بصوت رخيم بخشوع مؤثر... لبث جوزيف يتأملها في صمت و قد انتابه إحساس غريب. لم يكن يصغي إلى الكلمات التي تنطق بها، لكن ترتيلها كان ذا لحن شجي لامس جدار قلبه الموصد... انتبه حين توقفت عن القراءة. أغلقت كتابها و التفتت إليه مبتسمة، فبادرها :
    ـ ما الذي تفعلينه في مثل هذا الوقت؟

    ـ استيقظت لصلاة الفجر...

    ـ هاه؟ هل هي صلاة جديدة؟

    وقفت و طوت سجادتها و هي تقول موضحة :
    ـ بل هي صلاة قديمة... لكنني لم أكن أدرك قيمة أدائها في وقتها... فأصليها قبل شروق الشمس بقليل... لكن الشيخ يقول أن ركعتي الفجر خير من الدنيا و ما فيها...

    هم بأن يتكلم، لكنه تذكر الكابوس الذي رآه منذ دقائق و سمع صوت والدة ريما و هي تهتف في أذنيه ((الأمانة يا جوزيف... الأمانة!!)). كان ذاك النداء ما أخرجه من نومه فزعا. تمالك نفسه و اقترب من الفتاة ليربت على رأسها في حنان و هو يقول :
    ـ حسن يا صغيرتي... و الآن هيا إلى النوم... لازال الصباح بعيدا...

    استلقت ريما في سريرها و غطاها جوزيف في حرص. ثم جلس قرب كرسي مكتبها و جلس إلى جانبها. لبث يتأمل قسمات وجهها البريئة للحظات و هي تبتسم في وداعة. و لم يستطع أن يقاوم رغبة مفاجئة في أن يسمعها أغنية نومها التي كان يغنيها لها عندما كانت طفلة دون السادسة... الأغنية التي تحمل اسمها للسيدة فيروز :

    يالله تنام ريما *** يالله يجيها النوم

    يالله تحب الصلاة *** يالله تحب الصوم

    يالله تجيها العوافي *** كل يوم بيوم

    يالله تنام، يالله تنام *** أذبحلها طير الحمام

    كانت ريما تحب تلك الأغنية كثيرا و تحب أن يغنيها لها جوزيف... فهي كانت تذكرها بوالدتها الراحلة. تشبثت ريما بذراع جوزيف و همست و قد امتلأت عيناها بالدموع :
    ـ بابا يوسف... أنا أحبك كثيرا...

    امتقع وجهه فجأة، و هز رأسه في صمت... صارت كلمات حبها تخيفه في الفترة الأخيرة.
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:03 pm

    انشغلت ندى بترتيب المنزل و غسل الأواني في سويعات الصباح الأولى. كانت دانا قد انصرفت إلى جامعتها منذ أكثر من ساعة، و لم ينصرف ميشال إلا بعد أن أعطاها درسا في الحذر و التعامل مع الغرباء... و بعد أن وعدته بجعل الشابين ينصرفان في أقرب وقت. أما هي، فقد امتنعت عن الذهاب إلى جامعتها في ذلك الصباح حتى تنتهي مما يشغلها.



    أنهت تجفيف الأطباق و رمت المنديل على المنضدة و هي تتنهد... ربما عليها أن تتفقد ضيفيها و تطمئن على حال الشاب الجريح قبل أن تطلب منهما المغادرة... و لكن عليها أولا، من واجب الضيافة، أن تقدم إليهما فطور الصباح. سارعت بملأ كأسين بالحليب الدافئ، و رصفت بضع قطع من الكعك على طبق صغير و خرجت باتجاه المستودع...



    طرقت الباب لتعلن عن وصولها. انتظرت قليلا، ثم دفعت الدفة بلطف. و ما إن خطت إلى الداخل حتى وقعت نظراتها على أحمد الذي استوى جالسا على الطاولة و ساقه المصابة ممددة أمامه. كان يحدق في الباب بنظرات حذرة متحفزة، لكن حين رآها تحمل طبق الإفطار استرخت ملامحه و خفض بصره عنها. تقدمت في هدوء و هي تجيل عينيها في المكان، ثم قالت و هي تضع الطبق على الكرسي الخشبي :

    ـ أين صديقك؟


    أجاب أحمد دون أن يرفع رأسه إليها :

    ـ خرج لتغيير إطارات السيارة و إصلاح عطبها... لا نريد أن نثقل عليكم أكثر مما فعلنا...


    ثم أضاف في امتنان :

    ـ حسان أخبرني بما فعلتم من أجلي... لست أدري كيف أوفيكم حقكم من الشكر...



    ابتسمت ندى و هي تضع كوب الحليب على الطاولة بالقرب منه و همست في حياء :

    ـ لم نفعل إلا الواجب...


    ثم قالت و هي تقرب منه طبق الكعك :

    ـ تفضل بعض الكعك، فأنت لم تأكل شيئا منذ البارحة... سيساعدك على استرداد عافيتك...


    وضعت الطبق أمامه و أخذت تجمع الأغطية و ترتبها. أطرق أحمد في تردد و هو يراقب حركتها بطرف خفي. كان يعلم أن وجودهما بمفردهما في المستودع خطأ في حد ذاته لكنه كان يصارع الفضول الذي استبد به و صار يلح عليه حتى يعرف حقيقة أمرها. كانت تهم بالانصراف حين استوقفها في اللحظة الأخيرة و قد أوشكت على تجاوز العتبة. ناداها فجأة :

    ـ لحظة من فضلك...


    توقفت ندى و التفتت إليه في اهتمام، فواصل في ارتباك ظاهر :

    ـ آنستي... أنت يهودية، أليس كذلك؟


    نظرت ندى على الفور إلى نجمة داود التي كشفت أمرها منذ البداية، و لم تعلق.


    ـ إذن... لماذا تساعديننا؟


    رفعت عينيها في انزعاج و هتفت :

    ـ و ما شأن ديانتي بالعمل الإنساني؟ ألا يحثك دينك على الرحمة و الرأفة و تقديم يد المساعدة إلى من يحتاجها مهما كان انتماؤه و عقيدته؟ أليست تلك رسالة جميع الأديان السماوية؟


    ارتبك أحمد و قد أدهشه ردها و خفض رأسه في خجل من نفسه... فتاة يهودية تلقنه درسا في الأخلاق!! لم يملك إلا أن يتمتم في اعتذار :

    ـ أنا آسف... لم أقصد الإهانة..


    استطردت ندى في عدم اكتراث :

    ـ لا عليك... فما يحصل حولنا ينسينا أننا نعبد إلها واحدا... و إن اختلفت التفاصيل و الملابسات...



    سرح أحمد للحظات و هو يحاول استيعاب كلماتها التي صدمته بقوة. لم يكن قد تقرب من قبل من اليهود العرب و لا عرف شيئا عن طريقة تفكيرهم... و الفكرة الطاغية لديه هي أنهم يضمرون العداء للمسلمين! و مهما كان اليهودي معتدلا في تفكيره فهو يبقى يهوديا... و هو بالتالي في حزب الأعداء! لكن هذه الفتاة التي تقف أمامه تقول كلاما لم يتعود عليه. كلاما يضع الكثير من المسلمات لديه موضع تشكيك!


    قاطع صوتها أفكاره و هي تقول موضحة :

    ـ لا تستغرب ما أقول... فأنا نشأت في عائلة تختلط فيها كل الديانات... اليهودية و المسيحية و الإسلام... ليس هنالك حواجز بينها...


    هز رأسه في اهتمام، يشجعها على الإفصاح عن قصتها... فقد استثاره كلام حسان عن أخيها المسيحي و ازداد فضولا مع كلماتها الأخيرة. ابتسمت ندى و هي تستند إلى الجدار و ترفع خصلات شعرها النافرة التي أطلت من تحت غطاء رأسها. لم تكن قط فتاة متساهلة في علاقتها مع الجنس الآخر، بل إنها تنتمي إلى عائلة محافظة تعطي وزنا كبيرا للعادات و التقاليد، حتى أنها من بين الأقلية اليهودية التي تحافظ على غطاء الرأس للمرأة و زيها المحتشم. لكنها، و في لحظات بسيطة، أحست بارتياح غريب تجاه أحمد و وجدت نفسها تحاوره بدون تردد و تحدثه عن عائلتها. ربما كان لملامحه الجادة و لنظراته التي التصقت بالأرض احتراما لها دور في ذلك. و قد سرها أن تجد من يصغي إلى حديثها بمثل ذاك الاهتمام، فتابعت :


    ـ ولدت من أم يهودية و أب مسلم... ربما لم يكن والدي ملتزما كثيرا بدينه، لكنه مسلم على أية حال. أما والدتي فهي من أسرة يهودية محافظة تهتم بتطبيق الدين و إقامة شعائره... تعرفا في تونس، حيث جذور عائلتي و تزوجا رغم معارضة الأهل بعد قصة حب عنيفة. لكن من العجيب أن زواجهما لم يدم طويلا... بل اشتدت الخلافات بينهما و انتهيا إلى الطلاق بعد أن جئت أنا و أختي دانا إلى الوجود... كان عمري ثلاث سنوات فحسب حين تعرفت والدتي على بابا جورج... أرميني مسيحي. تزوجته و جئنا جميعا إلى لبنان حيث كان بابا جورج يعمل، مثل معظم الأرمينيين. كان أرملا، و له ابن وحيد من زوجته الراحلة... ميشال. نشأنا جميعا أنا و دانا و ميشال على أننا إخوة و توثقت علاقتنا كثيرا... حتى أنني لم أشعر يوما أنني أفتقد إلى وجود أبي الحقيقي في حياتي، فبابا جورج كان نعم الأب لنا أنا و أختي. بل أنه كثيرا ما كان يعاقب ميشال بدلنا، حتى لا يشعرنا بأي تفرقة بيننا. والدتي كانت حريصة على تعليمنا الدين اليهودي، أما ميشال فقد رباه والده على المسيحية... لكننا تعلمنا أن ذلك لا يغير من أخوتنا شيئا... لأن الله واحد للجميع...


    رفع أحمد حاجبيه معبرا عن عجبه... الله واحد للجميع! هل يؤمن اليهود بذلك حقا؟!


    واصلت ندى مبتسمة :

    ـ كما أن تلك ليست التجربة الوحيدة في عائلتنا... فخالتي تزوجت من رجل مسلم أيضا... و خالي ارتبط بمسلمة، ثم أسلم من أجلها... و لا أظنهما حالتين استثنائيتين... خاصة أن عدد اليهود في تونس ليس كبيرا، لذلك فإنهم يندمجون بسهولة في المجتمع و يتزوجون من المسلمين...


    سألها أحمد في جدية :

    ـ و لكن... كيف يقبل في دينكم أن ترتبط المرأة برجل ليس على دينها؟ ففي الإسلام، يحل للرجل أن يرتبط بكتابية، لكن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج غير المسلم...


    أومأت ندى برأسها موافقة و هي تقول :

    ـ نعم أعلم ذلك... لكن في اليهودية الأمر مختلف. فبالنسبة إلينا، يجب أن تكون الأم يهودية حتى يكون الأطفال من اليهود. لأن الأم هي من يعلم الأطفال الدين... و لو لم يكن الأمر كذلك لدينا، لما أمكن للرجال المسلمين الزواج من يهوديات...



    بادرها أحمد على حين غرة :


    ـ و أنت؟ ماهي نظرتك للمسلمين؟ هل تقبلين بالزواج من رجل مسلم؟


    بدا عليها التوتر و التردد، و خفضت رأسها في حياء. لاحظ أحمد اضطرابها فاستدرك على الفور في ارتباك :

    ـ أنا آسف، لم أقصد أن أحرجك... و لكن أردت أن أعرف كيف ينظر الجيل الجديد إلى مسألة الزواج المختلطة... هل هي مقبولة عندهم، أم أنها كانت خاصة بزمن معين و ثقافة معينة... و هل هناك فوارق في التفكير بين يهود تونس و يهود لبنان... هذا ما قصدته...


    كانت ندى تهم بالرد حين فتح باب المستودع، الذي ظل مواربا، و دخل حسان و قد ظهر الانشراح على أساريره. التفتا إليه في وقت واحد و قد بدا على كليهما الاضطراب، في حين هتف حسان الذي كان منشغلا بما يحمله من أخبار :

    ـ السيارة جاهزة... أظننا سنغادر في الحال. و شكرا لك مجددا آنستي...


    همهمت ندى ببضع كلمات غير مفهومة و سرحت نظراتها للحظات و هي تحس بانقباض لم تدر مصدره. أما حسان فتقدم على الفور ليساعد أحمد على الوقوف، دون أن يضيع لحظة واحدة، كأنه يستعجل المغادرة. تحرك أحمد من مكانه ببطء و هو يستند على ذراع صاحبه، لكن ما إن وضع ساقه المصابة على الأرض، حتى بدا على ملامحه ألم شديد لم ينجح في كتمانه، فأطلق صرخة قصيرة جعلت ندى تضم كفيها إلى صدرها في تعاطف. سارع حسان ليحيط خصره بذراعه و يسهل خطواته الأولى... أخذا يسيران في بطء باتجاه السيارة التي توقفت أمام باب الحديقة. أما ندى فتبعتهما إلى البوابة لتودعهما، كأنها تودع بعض أهلها...



    فتح حسان باب السيارة و ساعد أحمد على الجلوس. و بعد إن اطمأن إلى استقراره، ركض إلى الجانب الآخر و اتخذ مجلسه أمام عجلة القيادة. أدار المحرك و لوح لها مودعا... حركت كفها في الهواء مودعة بدورها، لكن إحساسا غريبا كا ن يشد نظراتها إلى أحمد الذي بدا منشغلا بألمه عنها. لكن قبل أن تتحرك السيارة مبتعدة رفع عينيه إليها و هتف كأنه قد تغلب على تردده أخيرا :

    ـ آنسة...


    ـ ندى...

    ـ نعم، آنسة ندى... شكرا لك على كل شيء...

    ثم انطلقت السيارة بسرعة لتبتعد عنها حتى اختفت عن ناظريها. لبثت أمام البوابة تنظر في الاتجاه الذي سلكه المسافران و على شفتيها ابتسامة خفيفة، و في صدرها شعور لذيذ... شعور لم تعرفه من قبل الفتاة ذات الثمانية عشرة ربيعا...

    لقد اهتم بمعرفة اسمها...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:04 pm

    الغداء جاهز! إلى المائدة جميعا...


    ترك باسكال ما بين يديه على الفور و جرى ليقفز على الكرسي و هو يهتف في صبر نافد :

    ـ أنا جائع!!


    رمقته سارا بنظرة قاسية و هي تجذب كرسيها في هدوء و تجلس في رصانة :
    ـ متى ستتعلم التصرف بأدب...


    عقد باسكال ذراعيه أمام صدره في احتجاج و رمى على سارا نظرة نارية أتبعها بمد لسانه محاولا إغاظتها. أشاحت سارا بوجهها في استهانة و هي تضيف بصوت هامس :

    ـ ستبقى دائما طفلا...


    ابتسمت تانيا و هي تضع الوعاء الساخن الذي يحمل الطبق الرئيسي و قالت معاتبة ابنتها :
    ـ إنه لا يزال صغيرا... دعيه يعيش طفولته!


    ـ و لكن يا ماما... يجب أن يتعلم الأدب من الآن...


    في تلك اللحظة، دخلت ريما و هي تلبس ثوب الصلاة الفضفاض و الحجاب. ألقت التحية و جلست في هدوء على مقعدها المعتاد. لكن سارا شهقت في استهجان :
    ـ و هذه أيضا... ألا تزال طفلة؟! إنها حتى لم تغير ملابسها قبل الجلوس إلى الطعام!!



    ألقت تانيا نظرة صارمة على سارا، ثم التفتت إلى ريما و قالت في لطف :
    ـ ريما عزيزتي... لماذا لم تغيري ملابسك بعد؟ سيتسخ ثوبك و وشاحك...


    لكن ريما لبثت مطرقة و أجابت في حزم و اقتضاب :
    ـ سأبقى بهما...


    نظرت إليها تانيا في استغراب، ثم دخلت مجددا إلى المطبخ حيث تركت جوزيف ينهي تحضير السلطة. و ماهي إلا دقيقتان حتى عادت و إياه إلى غرفة الطعام. جلس جوزيف إلى جانب ريما كعادته و لم يعلق بكلمة. أخذ يوزع قطع اللحم على الصحون في صمت، في حين راحت تانيا تلمزه و تشير إليه كي يتحدث إلى ريما بشأن ملابسها. حدجها بنظرة متذمرة، ثم التفت إلى ريما مبتسما و قال :
    ـ ريما حبيبتي... لماذا لم ترتدي ثياب البيت؟


    وضعت ريما شوكتها إلى جانب الطبق و لبثت مطرقة دون أن تحرك ساكنا. سرى التوتر إلى الجلوس حول المائدة و ساد الصمت للحظات. و أخيرا تكلمت ريما في صوت حازم لم يُعهد عند الصغيرة :
    ـ منذ اليوم سيكون هذا لباسي...


    تبادل الطفلان نظرات متسائلة، في حين رنت تانيا إلى جوزيف في انفعال و قد أدركت جزءا مما ترمي إليه ريما. أما جوزيف فقد تمهل للحظات، ريثما استوعب ما ينطوي عليه قرار الفتاة ثم قال في هدوء :
    ـ حسن... دعينا نأكل الآن، و سنتحدث في ذلك لاحقا...


    تناول شوكته و شرع في الأكل و عقله لا يزال مشغولا بالتفكير. فما كان من الأطفال إلا أن حذوا حذوه، و أخذ الجميع يأكلون في صمت. لكن علامات الانزعاج ظلت بادية على وجه تانيا التي لم تأكل إلا شيئا قليلا، ثم مسحت يديها في عصبية و تركت مقعدها. رفع سارا و باسكال رأسيهما في توجس و تبادلا نظرات واجمة، فبادرهما جوزيف :
    ـ أنهيا طبقيكما قبل أن تفكرا في مغادرة المائدة!


    انصاع الطفلان على مضض. أما ريما، فكانت تأكل في هدوء و عيناها مركزتان على صحنها. كأنها تتحاشى نظرات جوزيف و بقية أفراد العائلة. و ما إن أنهت نصيبها حتى قامت لتغادر المائدة و تنسحب إلى غرفتها...


    اهتم جوزيف بطفليه ريثما انتهيا من الأكل، ثم جمع الصحون و نظف المائدة. تردد للحظات قبل أن يدخل إلى غرفة نومه حيث اختفت تانيا الغاضبة منذ دقائق طويلة. كانت تجلس على السرير و هي تهز إحدى ساقيها في توتر مولية الباب ظهرها، و ما إن فتح الباب حتى استدارت و قد تطاير الشرر من عينيها و هتفت :
    ـ هل يمكنك أن تفسر لي ما الذي تفعله ريما؟


    ارتبك جوزيف الذي لم يكن يدري كيف عليه أن يعالج الموقف و قال :
    ـ يبدو لي أنها قد قررت ارتداء الحجاب الإسلامي... و ذلك حقها...


    وقفت تانيا في عصبية متزايدة و أخذت تصرخ :
    ـ حقها؟ عن أي حق تتحدث؟ تعلم أن باسكال و سارا لا يزالان صغيرين، و قد بدأت تصرفاتها المختلفة تثير الكثير من التساؤلات لديهما... حول الصلاة التي تؤديها مرات عديدة في اليوم الواحد، و ذهابها إلى المسجد يوم الجمعة... و الكتاب الذي تقرأ فيه باستمرار... و أنا أحاول في كل مرة أن أجد تفسيرات معقولة و مقنعة للطفلين دون أن أدخل شكوكا عقائدية لديهما. و الآن ماذا؟ الحجاب مرة واحدة؟!! كيف يمكنني أن تعامل مع هذا؟ إن الأمر وصل إلى حد لم يعد مقبولا... و عليك أن تتصرف !!


    تنهد جوزيف في تسليم و قال متلطفا :
    ـ حسنا يا عزيزتي... اهدئي... سأحاول التحدث إليها...


    ـ لا تتحدث إليها و حسب... بل أقنعها!


    ترك جوزيف الغرفة و توجه إلى غرفة ريما حيث أغلقت على نفسها هي الأخرى. طرق الباب و دفعه بلطف، فرفعت ريما، التي كانت قد أكبت على مراجعة دروسها، رأسها. اقترب منها جوزيف و جلس على طرف سريرها و هو يحاول رسم ابتسامة محايدة على شفتيه. لكنه فشل في إخفاء الخطوط العابسة التي تخللت جبينه. نظر إليها متوددا و قال :
    ـ إذن قررت ارتداء الحجاب؟


    هزت ريما رأسها علامة الإيجاب، فقال جوزيف :
    ـ جيد... أنت تتعلمين الدين بسرعة...

    ربما لم يكن مقتنعا بما يقول. لكنه يعرف الكثير عن دين الإسلام، و يدرك أن ارتداء الحجاب ضرورة للمرأة المسلمة. و لا يمكنه أن يفعل شيئا حيال ذلك و لا حتى أن يحاول إقناعها بالعكس... هو وعد والدتها بألا يفعل، و سيظل يفي بوعده مهما حصل...


    أضاف بعد صمت قصير :

    ـ هل تريدين أن نخرج لشراء عباءات جديدة؟ فأنت تملكين واحدة فقط...


    اتسعت ابتسامة ريما و هتفت في فرح حقيقي :
    ـ نعم، أريد ذلك... أنت رائع بابا يوسف!


    تذكر يوسف عندها غضب تانيا و ملامحها المكفهرة، فقال :

    ـ و لكن يا حبيبتي، لا داعي لارتدائها داخل المنزل... لكن يمكنك الخروج بها مثلما تريدين...


    أطرقت الفتاة و همست :
    ـ لا أستطيع... يجب أن أبقى بها حتى في المنزل..


    تطلع إليها في دهشة :
    ـ لكن لماذا؟ ليس هناك غيرنا في البيت!


    طال صمت ريما كأنها تفكر في الجملة الموالية و تزن نتائجها، لكنها قالت أخيرا في شيء من الحزن :
    ـ و لكنك رجل أجنبي عني... لذلك لا يمكنني أن أنزع الحجاب أمامك!


    صعق جوزيف من كلماتها التي لم يتوقعها، فتسمر مكانه من الصدمة. أنا رجل أجنبي عنها؟!! أنا الذي ربيتها مثل ابنتي و أحببتها أكثر من أطفالي الذين من صلبي؟! هل ستضع حدودا بيني و بينها... أنا الذي تناديني بابا؟


    كان قد لاحظ في صمت التطور الذي حصل في تصرفات ريما منذ أسابيع قليلة. كان يهون الأمر على نفسه و على تانيا... لأنه اعتقد أن ريما لا تزال صغيرة، و تحتاج إلى مساندته و رعايته مثل السابق. لكن أن يصل الأمر إلى إقصائه من حياتها بهذه الصفة... فذلك ما لم يتوقعه! ربما كانت تانيا على حق في مخاوفها...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:05 pm

    ابتعدت السيارة تطوي الأرض طيا، و كأن سائقها فرح بانطلاقها من جديد. عبرت شوارع قانا التي أخذت تدب فيها الحركة مع ارتفاع الشمس إلى عنان السماء. التفت حسان إلى أحمد و هتف في تأثر :
    ـ هل تعتقد أن هناك الكثير من اليهود ممن يفكرون مثل ندى؟

    انتبه أحمد من أفكاره و نظر إلى صاحبه في شرود، كأنه لم يستوعب كلماته. هتف حسان في قلق :
    ـ أحمد... هل أنت بخير؟ ربما من الأفضل أن نمر بالمستشفى...

    لوح أحمد بيده مهونا و قال و هو يسترخي في مقعده و يمد ساقه أمامه :
    ـ لا، لا داعي للقلق... سرحت للحظات... لكنني بخير.

    ثم أضاف مبتسما و هو ينظر إلى جرحه المضمد بمهارة :
    ـ يبدو أن الراهب متعدد المواهب...

    شاركه حسان ضحكة مرحة. و ما لبث أحمد أن غرق في أفكاره من جديد...
    مضت دقائق من الصمت قبل أن يطلق تنهيدة عميقة. نظر إليه حسان و ابتسم مداعبا :
    ـ ما الذي يشغل بالك... أخبرني...

    حين لم يأته الرد على الفور، أضاف و هو يغمز بعينه :
    ـ لعلك تفكر في مضيفتنا الحسناء...

    بدا على وجه أحمد الانزعاج من دعابة حسان السمجة، لكنه لم يجب. بل غير الموضوع فجأة و هو يقول في لهجة جادة :
    ـ هل اتصلت بالقيادة؟

    ارتبك حسان و قد عادت إليه جديته المعهودة :
    ـ نعم... و سأذهب للقاء القائد غدا حتى أحيطه علما بكل التفاصيل...

    ـ سآتي معك.

    رد حسان في حزم :
    ـ لن تذهب إلى أي مكان، بل يجب أن تلازم الفراش حتى تسترد عافيتك و تصبح قادرا على المشي...

    ثم هتف و قد تذكر شيئا غاب عنه :
    ـ يا الله... نسيت أن منزل والديك قريب من هنا! ألا تريد أن تقضي بضعة أيام مع عائلتك؟ على الأقل ستجد من يعتني بك و يخدمك حتى تتعافى

    أطرق أحمد مفكرا و قال مهمهما :
    ـ لا أريد أن تقلق أمي علي إن علمت بما حصل..

    لكنه استدرك بسرعة و قد التمعت في عينيه نظرة غريبة :
    ـ انتظر... ربما كنت على حق! انعطف من هنا...

    ألقى حسان عليه نظرة جانبية. ثم أذعن لأمره و تنهد و هو يدور بالسيارة حول المنعطف ليعود إلى أحياء قانا القديمة...




    *********



    دخلت ندى غرفة الجلوس و هي تحمل طبق الحلويات. و بعد أن قامت بجولة على أفراد عائلتها لتوزيع ما يحمله طبقها، اتخذت مقعدا و جلست تستمع إلى مختلف الأحاديث التي يتبادلونها في جو مرح. كان والداها قد عادا من بيروت منذ أيام، و انضم إلى الجلسة ميشال و زوجته ماري و طفلاه كريستينا و جابريال، و خطيب دانا المسيحي إيميل... كان اجتماعا عائليا مميزا من تلك الاجتماعات التي تحرص عليها الوالدة سونيا كل يوم سبت. فالطقوس اليهودية تقتضي أن تتفرغ العائلة يوم السبت من كل أعمالها فتتبادل الزيارات و اللقاءات الاجتماعية. و كان جورج يتقبل بصدر رحب كل ممارسات زوجته مثلما تتقبل هي ممارساته الخاصة بالدين المسيحي...

    كانت الأحداث السياسية تشغل قسما لا بأس به من أحاديث العائلة و اهتماماتها. ففي تلك الفترة التي تلت الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، تفاقم العدوان في الأراضي الفلسطينية و تزايد القمع الإسرائيلي للمدنيين العزل. و في الجنوب اللبناني، حيث للأحداث صدى كبير نظرا للقرب الجغرافي، تباينت المواقف و انقسم الناس من أتباع الطوائف الدينية المختلفة بين مؤيد و معارض... لكن الأكيد هو أن الصهيونية كونت عداوات جديدة و متجددة منذ احتلالها لفلسطين و بنائها للدولة العبرية. و امتدت هذه العداوة لتشمل اليهود أنفسهم، بظهور طوائف منشقة في الداخل و الخارج تعتقد بأن الحكم الإسرائيلي قائم على دوافع سياسية و إيديولوجية مغلفة بقناعات دينية مشكوك فيها. و من بين هؤلاء من يرى أن اليهود استحقوا الحكم الإلهي الوارد في التوراة بالشتات في مختلف أنحاء الأرض دون الانتماء إلى وطن يجمعهم و يلم شملهم. و لذلك فإنهم يعتبرون كل محاولة لبناء دولة يهودية قبل عودة المسيح إلى الأرض خرقا للإرادة الإلهية. لكن هذا لا يعني أن هذه الطائفة تساند الإسلام و الجهاد أو تدعمه. فهي تستنكر استعمال العنف في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مهما كان العدوان شديدا...

    و في داخل عائلة سونيا، كانت مختلف هذه المواقف ممثلة. سونيا نفسها كانت من اليهود المتشددين الذين يطالبون بحقهم في القدس، أرض الأنبياء، و بطرد الفلسطينيين منها. ربما لم تكن تحمل نفس الحقد تجاه المسلمين في صباها، فهي كمعظم اليهود العرب، نشأت بين المسلمين و جاورتهم، و عائلتها تمسكت بانتمائها إلى تونس و لم تفكر في الهجرة إلى فلسطين لتعمير المستوطنات الإسرائيلية. بل فضلت عيشتها الآمنة وسط مجتمع مسلم يحترمها و يقسط إليها... لكن تجربة زواجها الفاشلة كانت بمثابة الصدمة بالنسبة إليها، و أثر ذلك على نظرتها للأحداث التي تشهدها الساحة السياسية في السنوات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط فولدت لديها ضغينة تجاه المسلمين كافة. لكنها لم تنجح في ترسيخ قناعاتها الخاصة في الفتاتين، أو على الأقل لم تنجح في ذلك مع ندى. فندى كانت طفلة ذكية، تسأل كثيرا و تفكر أكثر... فكونت فكرتها الخاصة عن كل هذه المسائل. آمنت بحكمة التوراة و مبادئها و تعاطفت مع أهل الأراضي المحتلة. تمسكت بتعاليم الدين اليهودي بحذافيره، حتى أنها كانت أكثر التزاما من والدتها بغطاء الرأس فلا تترك شيئا من شعرها يظهر على عكس السائد في المجتمعات اليهودية المعاصرة، و اعتقدت في نفس الوقت بشرعية المقاومة... و كانت راضية عن توجهها ذاك، رغم ما تلاقيه من اعتراض من طرف والدتها...

    لم تكن ندى منطلقة كعادتها في تلك الأمسية، بل أنها جلست ساهمة، بالكاد تصغي إلى ما يقولونه بغير تركيز. كانت على تلك الحالة من الاكتئاب منذ بضعة أيام. فكرها مشغول باستمرار و نظراتها سارحة في الفراغ. لم تكن في مزاج يسمح لها بالمشاركة في النقاش السياسي الذي سيؤدي حتما إلى صدام ترتفع فيه الأصوات... فهي أدركت منذ وعت أنها تمتلك نظرة مختلفة إلى الأمور أنه لا فائدة من الإعلان عن موقفها الذي يجعلها تتعرض إلى السخرية و الإهانة من طرف والدتها و شقيقتها دانا. و رغم اقتناعها الكبير بتعاليم الديانة اليهودية، إلا أن تلك النقاط السوداء في عقيدة أبناء طائفتها تجعلها تتساءل و تحتار، ثم ترجع فتنفض عنها "الأفكار الشيطانية" و تنتهي إلى الإقرار بمشروعية الاختلاف بخصوص الأمور الدنيوية... و إن كانت هي متأثرة بآراء الطوائف المعادية لإسرائيل، فإنها لا ترفض حق أهلها في اتخاذ مواقف مختلفة...

    انتبهت حين تحول موضوع الحوار. كان إيميل يقول :
    ـ ما رأيكم أن يكون الزفاف بعد عيد الميلاد المجيد مباشرة؟

    ظهرت علامات الامتعاض على وجه سونيا و نظرت مباشرة إلى ابنتها دانا تطلب مساندتها. لكن دانا خفضت عينيها في استكانة و ابتسمت في حياء و هي ترد :
    ـ كما تريد….

    م تكن سونيا تريد أن يرتبط زواج ابنتها بعيد نصراني. يكفي أنها وافقت على زواجها من إيميل. فهي و إن كانت تزوجت من جورج و هو على نصرانيته، فإنها ترى الأمر مختلفا بالنسبة إلى ابنتيها. كونها لم ترزق بولد يحيي الدين اليهودي في ذريتها يجعلها تتمنى زوجا يهوديا لإحدى ابنتيها… و هاهي دانا، التي كانت تظنها الأقرب إلى تفكيرها و الأكثر طاعة لها، تتعلق بشاب مسيحي و هي على وشك الزواج منه. كان كل ذلك يثير غيظا مكتوما لديها. فلا هي تستطيع الرضا بالأمر الواقع و التسليم به، و لا هي تستطيع الجهر بأفكارها تلك حتى لا تجرح زوجها و ابنه…

    انتبهت حين أضاف إيميل في سرور و هو يرنو إلى ميشال :
    ـ و العرس بطبيعة الحال سيكون حسب الشعائر النصرانية… و يسعدني أن يشرف صهري العزيز عليها…

    علا صوت سونيا التي لم تعد تستطيع الكتمان أكثر :
    ـ نحتاج إلى مزيد من الوقت حتى نتفق على مراسم الزفاف!

    اعترض إيميل في هدوء، لكن سونيا كانت مصممة على رأيها… و احتد النقاش بينهما. تدخل جورج لينهي الموضوع بالحسنى، في حين انسحبت دانا باكية إلى غرفتها. أما ماري فأخذت طفليها و غادرت الغرفة. و وسط ذاك النقاش الصاخب، مال ميشال على أذن ندى، و همس بصوت لم يسمعه غيرها :
    ـ هل تدرين من الذي زارني البارحة في الكنيسة؟

    التفتت إليه في لامبالاة و قالت :
    ـ من؟

    ـ هل تذكرين الشابين الذين جاءا إلى هنا الأسبوع الماضي، و قمت بخياطة جرح أحدهما؟

    انتبهت ندى بكل جوارحها و التفتت إليه في اهتمام و هي تهز رأسها، فأضاف :
    ـ أحدهما جاءني اليوم ليشكرني على المساعدة... و هو يبلغك شكره أيضا. لم أتعرف عليه في البداية. لكنه جاءني مباشرة و ناداني باسمي، و أحضر معه هدية...

    كانت ندى تتابع كلماته في انتباه و هي تريد أن تعرف أي الشابين هو. لكنها لم تجرؤ على سؤاله. فتابع ميشال بصوت هامس :
    ـ بدا لي أن جرحه قد تماثل للشفاء... لكنه لا يزال يستخدم عكازا يتوكأ عليه...

    تسارعت دقات قلب ندى و سرى في نفسها ارتياح غريب. إنه أحمد! لقد كلف نفسه عناء البحث عن ميشال ليشكره رغم أنه لم يتعافى بعد بشكل نهائي. يا له من شخص غريب! كان بودها أن تستوضح أكثر عنه، لكن الصمت كان قد حل على الجلوس و ظهرت على الوجوه علامات التوتر و الانزعاج. ابتسمت ندى في مرح و هي تهتف :
    ـ من يريد كأسا من الشاي؟ سأعد لنفسي واحدا...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:06 pm

    أغلق جوزيف باب مكتبه جيدا. ألقى نظرة أخيرة على غرفة المعمل المظلمة ثم أحكم غلق بابها هي الأخرى و توجه إلى الباب الخارجي. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء، و العاملات غادرن معمل الخياطة منذ أكثر من ساعتين. لكن جوزيف بقي في المكتب إلى ذلك الوقت المتأخر، يراجع الحسابات و يتأكد من طلبات الأسبوع المقبل. كان قد ورث المعمل الصغير عن والده الذي كان خياطا ماهرا. لكن جوزيف لم يكن يتقن الخياطة بقدر ما يتقن الإدارة و التصرف... لذلك مكنه والده منذ تخرجه من إدارة المعمل و أعطاه مسؤوليته كاملة...

    لكن شيئا آخر كان يشغل جوزيف ذلك المساء غير الحسابات و الطلبات. كانت الأمور تتفاقم بينه و بين تانيا يوما بعد يوم بسبب حجاب ريما و تصرفاتها المستفزة. لم يكن يريد أن يضغط على الصغيرة، لكنه لم يكن يجهل تبعات ذلك على عائلته. كان بحاجة إلى الاختلاء بنفسه و التفكير فيما يمكنه فعله لحل المشكلة التي باتت قائمة بين جدران بيته...

    ـ جوزيف!

    كان جوزيف قد خرج من معمله و أخذ يتمشى على مهل و قد أثقل كاهله التفكير. كان يمر أمام مقهى الحي الشعبي حين سمع من ينادي باسمه. التفت إلى الشخص الجالس إلى طاولة عند ناصية الطريق، يدخن "الشيشة" في نهم و ينفث دخانها حوله في إهمال.

    ـ سالم؟

    أشار سالم إلى كرسي قريب من طاولته المنفردة، كأنه يدعوه إلى مشاركته الجلسة. صافحه جوزيف في غير حرارة و ألقى بنفسه على الكرسي. لم يكونا قد التقيا منذ بضعة أسابيع، لكن علاقتهما لم تكن وثيقة بطبعها... انحنى سالم باتجاهه و قال في اهتمام :
    ـ كيف حال البنتين؟

    ابتسم جوزيف و هو يقول في رثاء :
    ـ صارتا امرأتين الآن! كلتاهما تدرس في الجامعة...

    هز سالم رأسه و هو يزم شفتيه في تحسر :
    ـ نعم... لا شك أنهما كبرتا... ألم ترسل أختك راشيل صورا جديدة؟

    ـ ليس بعد... لكن ربما ترسلها بعد زفاف دانا...

    وقف سالم في فجأة و هو يهتف في عصبية :
    ـ دانا ستتزوج؟!

    قال جوزيف في لهجة هادئة تشوبها سخرية خفيفة :
    ـ إنها مخطوبة منذ سنتين... لا شك أنها ستتزوج قريبا... بعد أن تنهي دراستها الجامعية...

    جلس سالم مجددا و هو يتنهد في إعياء. قال بعد صمت قصير :
    ـ أريد أن أراهما... أريد أن أرى ابنتي...

    أجاب جوزيف في حزم :
    ـ تعلم أن هذا ليس من صلاحياتي... راشيل تتقصى أخبارهما قدر الإمكان بدون علم سونيا... فإن علمت سونيا أنك تلاحقها و تفكر في استعادة البنتين، فقد تختفي مجددا... إلى حيث لا يمكن أن تجدها أنت، و لا حتى راشيل!

    لكن سالم قال في توسل و قد مالت لهجته إلى البكاء :
    ـ ضع نفسك مكاني... ابنتي الكبرى ستتزوج قريبا، و أنا لم أرها منذ خمسة عشر عاما! أنت أب يا جوزيف، و تدرك معنى ابتعاد أبنائك عنك لفترة طويلة...

    نظر إليه جوزيف بنظرات ساهمة. خطرت بباله ريما! هل يحتمل أن تبتعد عنه يوما؟

    ـ سالم أرجوك... لقد عوضك الله بأبنائك من زواجك الثاني... و أخبار دانا و ندى تصلك باستمرار... فلا تطلب أكثر من ذلك!

    قال جوزيف تلك الكلمات و قام على الفور. وقف سالم على إثره و أمسكه من ذراعه في تودد :
    ـ حسن... لا بأس... لا تغضب من إلحاحي... لكنني أمر بفترات من اليأس تجعلني أفقد أعصابي...

    أومأ جوزيف برأسه متفهما، ثم افترقا دون كلمة إضافية...





    **********



    أغمض أحمد عينيه في إعياء و استلقى على ظهره واضعا كفيه خلف رأسه، مادا سا المصابة أمامه. لم يستطع أن يمحو صورتها من ذاكرته منذ تلك الليلة. و وجد نفسه يفكر في الموضوع بجدية. خسارة أن تكون تلك الفتاة يهودية! بل إنه يراها مسلمة أكثر من كثير من المسلمين... أفكارها، حشمتها، حياؤها... كلها تجعل منها تربة خصبة لزرع بذرة الإسلام، و يحس أن من واجبه أن يدعوها... لكن كيف يدعوها؟ يحس أن القدر أخذه إلى ذلك المنزل لأن مهمة ما تنتظره. لكنها قد تكون مهمة أصعب من غيرها. فكيف يمكنه أن يقتحم عالمها و يوصل الإسلام إلى قلبها؟ إنها لرحلة طويلة... من اليهودية إلى الإسلام...


    كان غارقا في لجة أفكاره، حين دخلت أخته سماح مبتسمة. وضعت طبقا يحوي كأسي شاي محلى على المنضدة ثم جلست على طرف السرير. ابتسم بدوره و هو يتناول كأسه شاكرا. بادرته سماح مداعبة :
    ـ كيف حال بطلنا اليوم؟ أمي أخبرتني أنك خرجت لتتمشى قليلا هذا الصباح...

    هز أحمد رأسه مطمئنا و هو يضيف :
    ـ أحسست بتحسن، و رأيت أن بعض المشي سيكون مفيدا حتى لا تخمل عضلاتي...

    ـ جيد... يمكنك أن تعود إلى الكلية قريبا إذن... و حاذر في المرة القادمة حين تلهو بالكرة الحديدية!

    ابتسم أحمد في خجل. كان قد أخبر عائلته أنه قد أصيب أثناء لعبه الكرة الحديدية في نادي الكلية، و لم يتطرق إلى العملية التي كان بصددها و لا إلى الليلة التي قضاها في مستودع العائلة اليهودية! كانت كذبة سخيفة، صدقها والداه بسذاجة، لكنها لم تنطل على سماح!
    أطرق للحظات مفكرا. ثم رفع رأسه و قال بلهجة جادة :
    ـ سماح... هناك سر صغير سأخبرك عنه...

    نظرت إليه سماح و هي تضيق عينيها في دهاء :
    ـ قل... هل للأمر علاقة بإصابتك؟

    هز رأسه علامة الإيجاب و قال :
    ـ عديني أولا أن لا يعلم أحد عنه شيئا... و لا حتى والدانا...

    ـ أعدك!

    ـ و أنك ستساعدينني للوصول إلى ما أريد...

    ـ أعدك! و لكن قل ما الأمر، فقد شوقتني!!

    ـ حسن... الإصابة التي تعرضت لها، لم تكن بسبب الكرة الحديدية...

    ـ أعلم ذلك!

    ابتسم أحمد و هو يجيب :
    ـ نبيهة... مثل أخيك!

    ـ و أكثر! و الآن أخبرني... ما الذي تخفيه؟

    أخذ أحمد نفسا عميقا قبل أن يقص عليها ما حصل في ذلك اليوم باختصار شديد. و ما إن أنهى سرده، حتى ضربت سماح كفيها ببعض في انبهار و هي تهتف :
    ـ لست هينا يا أحمد!

    ثم أضافت في مرح :
    ـ يحق لي أن أفخر بك أمام صديقاتي!

    ـ ألم نقل بأن يظل الأمر سرا بيننا؟!

    ـ آه نعم... و هو كذلك! و ما المطلوب مني الآن؟

    انحنى أحمد إلى الأمام و قال في تصميم :
    ـ أريد منك أن تزوري الفتاة اليهودية في بيتها...

    نظرت إليه سماح في شك و عدم استيعاب :
    ـ أزورها؟ و لماذا؟

    ـ حسن... ستذهبين لشكرها عما فعلته من أجلي، و تحاولين التقرب إليها...

    ـ و ماذا بعد؟

    سكت أحمد هنيهة، ثم قال و قد سرحت نظراته في الفراغ :
    ـ ثم سننظر ما الذي يمكننا فعله...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:07 pm

    استمعت إلى رسالتكم
    و فيها العز و الإيمان
    فأنتم مثلما قلتم
    رجال الله في الميدان
    و وعد صادق أنتم
    و أنتم نصرنا الآتي
    و أنتم من جبال الشمس
    عاتية على العاتي...

    // (أحبائي) جوليا بطرس //

    ::::::::::::::::::::::::::::::



    كان الليل قد أرخى سدوله على مدينة صيدا منذ بضع ساعات، و غرقت شوارع المدينة القديمة في الظلام، ما عدا بضع أعمدة كهربائية ترسل ضوءا باهتا لا يكاد ينير مساحة ضئيلة تحت كل منها. خفتت كل الأصوات و لم يعد يسمع غير مواء القطط الشاردة التي تتسكع في الشوارع الهادئة، و صفير الرياح التي تتلاعب هباتها بالعلب الورقية الملقاة على قارعة الطريق... في تلك الآونة، ظهر شبح رجل يتقدم بخطى سريعة و هي يتلفت حوله في توجس. كان قد أخفى جزءا كبيرا من وجهه بوشاح يحيط رأسه و عنقه و يرتدي ثيابا بسيطة لا شيء مميز فيها... توقف عند منزل متواضع في أحد الشوارع ا
    لجانبية، و بعد أن تثبت من أنه لم يكن متبوعا، طرق الباب بطرقات موقعة و مدروسة. لم تمض سوى ثوان قليلة حتى فتح الباب المنخفض، فانحنى الرجل قليلا و دلف إلى الداخل. اجتاز باحة صغيرة تحيط بها بضع غرف صغيرة تفتح كلها على الفناء، مثل كل المنازل التقليدية بالمدينة، ثم دخل إلى الغرفة المقابلة التي كانت تنبعث منها إنارة خافتة...
    ـ أخيرا... اكتمل العدد!

    ألقى القادم الجديد السلام و هو يزيح اللثام عن وجهه. تبادل مع أصحابه عبارات الترحيب الحارة و المصحوبة بالعناق و الضم و المصافحة، ثم اتخذ مجلسه في الحلقة المكونة من سبعة رجال آخرين، على الأرضية المفروشة ببعض الزرابي المحلية و المرتبات المحشوة بالصوف. تلفت حوله في وجوم و قال أخيرا :
    ـ لا أرى أحمد... ألم يأت بعد؟

    أجابه حسان الذي كان أحد الشباب الجالسين، في أسف :
    ـ أحمد أصيب في العملية الأخيرة، و ربما يلزمه بضعة أسابيع قبل أن يعود إلى العمل معنا...

    ظهرت علامات الأسى على وجه الشاب الذي كان يكنّ محبة خاصة لأحمد، في حين قال رجل قد اقترب من الأربعين من عمره، بدا أنه أكبر الحاضرين و أكثرهم خبرة و حكمة :
    ـ لا بأس يا أيهم، أحمد قوي... سيتعافى قريبا و يعود إلينا... اطمأننت عليه بنفسي. ليست إصابته بخطيرة! فلنتحدث في المهم الآن...

    التفت حوله المجموعة في انتباه، فقال بصوت حازم :
    ـ ستبدؤون قريبا التدريب الحقيقي!

    سرت همهمات مبهمة بين الشبان و تبادلوا نظرات متسائلة، فأضاف القائد موضحا :
    ـ نعم، التدريب الحقيقي... فما قمتم به إلى حد الآن لم يكن سوى تمهيد... حتى نستوثق من جديتكم و التزامكم، و قدراتكم النفسية و الجسدية على المواصلة... تعلمون أننا جيش منظم، له قدرات كبيرة، و ذلك بفضل سواعد أبناء وطننا المؤمنين بالقضية... و حتى نكون قادرين على مواجهة عدونا بكل كفاءة، فإن الأسلحة و المعدات البسيطة التي استخدمتموها إلى حد الآن غير كافية!

    كان لكلماته وقع عجيب في نفوس الشبان، و اشتعل الحماس في عيونهم و هو يواصل :
    ـ نعم، صار بإمكانكم الآن دخول معسكرات المقاومة الحقيقية!

    انطلقت الأسارير و ظهرت علامات الانشراح و الحماس على الوجوه و تعانقت الأجساد مهنئة و مباركة بالخبر السعيد...



    ********



    كانت ندى منهمكة في قراءة فصول روايتها الفرنسية "جولتي وحيدا عبر هذا القرن" التي يقص فيها روجي جارودي، الفيلسوف و الكاتب الفرنسي سيرته الذاتية ابتداءً من الحرب العالمية الأولى و تأرجحه بين الشيوعية و الكاثوليكية، مرورا بصراعاته السياسية و الفكرية في منتصف القرن، وصولا إلى إسلامه في أوائل الثمانينات... كانت قد سمعت عن هذا الفيلسوف و درست بعض نصوصه في كليتها. و ما إن وقعت عيناها على الرواية في المكتبة العامة، حتى تملكتها رغبة غريبة في قراءتها. كان تريد أن تتعرف عن قرب على هذه الشخصية التي واجهت المنظمات الصهيونية و تصادمت معها في مناسبات عدة، و خاصة و هي تعلم بمبادرته إلى إصداره بيان يدين العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان سنة 1982.

    لم تكن قد أتمت الكتاب بعد، لكنها اندمجت بشدة مع أحداثه و أخذت في كل مرة تحاول تقمص شخصية الكاتب و تدرس الخيارات التي كانت أمامه و القرارات التي اتخذها طوال مساره الديني و الفكري. كانت تجد أن جارودي أخطأ المسار الصحيح و تغافل عنه ليركز على ما يناسب ملابسات حياته، أو ربما اكتفى بما أهدته إليه الحياة من فرص و لم يتعمق في البحث حتى يصل إلى روح الفكر اليهودي... الدين الأقدم على الأرض. كانت تعلم مسبقا أن جارودي سيلقي مرساته أخيرا على شواطئ الإسلام، و لم تكن قراءتها لتلك الرواية إلا لسببين اثنين : الفضول لمعرفة الدوافع التي حملته إلى تلك النتيجة، و الرغبة في إيجاد الخلل في تفكيره الذي قاده إليها! فلا بد من وجود خلل ما... كانت تشعر بالغيظ لأن جارودي يقول أنه وجد المعاني التي بحث عنها طوال حياته في الإسلام، و هو ما لم يجده في التوجهات الأخرى التي اعتنقها أو درسها... كما أنه شكك في الأرقام الشائعة حول إبادة يهود أوربا في غرف الغاز على أيدي النازيين و بالمحرقة في حد ذاتها، مما حدا بإحدى المحاكم الفرنسية إلى محاكمته! و لم يكن أي يهودي ليتسامح مع من يشكك في قضيته و في معاناة أسلافه و أبناء ديانته...

    فتح الباب فجأة و أطلت دانا و هي تقول بسرعة :
    ـ ندى... لديك زائرة!

    ـ زائرة؟ من تكون؟

    لكن دانا كانت قد اختفت. تنهدت ندى و هي تضع روايتها جانبا... ستعود إلى جارودي و مغامرته الغريبة فيما بعد. و وقفت بسرعة و ألقت نظرة عابرة على هندامها في المرآة. لم تكن لديها صديقات كثيرات، و لم تكن تتلقى الزيارات منهن نظرا لتحفظ عائلتها الشديد في الاختلاط بغير اليهود. توجهت إلى غرفة الجلوس حيث توقعت أن الزائرة تنتظرها. لمحت فتاة تجلس و قد أطرقت رأسها في احتشام. كانت تضع غطاء رأس و ترتدي ثوبا طويلا فضفاضا. أيقنت على الفور بأن الفتاة مسلمة. فالفرق واضح بين الحجاب الإسلامي و غطاء الرأس اليهودي المعاصر. فالنساء اليهوديات الملتزمات لم يعدن يرتدين أوشحة، بل يفضلن القبعات و الشعر المستعار الذي يمكنهن من الظهور في هندام لائق و مميز، دون أن يتنازلن عن قناعاتهن الدينية أو يجلبن إليهن الأنظار في المجتمعات المختلطة. و حتى من حافظن على الغطاء التقليدي منهن ـ مثلما تفعل ندى ـ فإنهن يتركن جزءا من مقدمة الشعر تطل من تحت الوشاح، و يكشفن جزءا من العنق و فتحة الصدر. و كذلك الأمر بالنسبة إلى الثياب، فإن الفرق واضح فيها. حيث لا تهتم اليهوديات بطول أثوابهن فيكشفن سيقانهن و يضيقن على خصورهن بالأحزمة. أما الفتاة الماثلة أمامها فهي ليست من ذلك في شيء، إذ أنها تغطي شعرها بالكامل و تترك وشاحها يغطي كتفيها و صدرها. اقتربت منها في فضول هادئ، فرفعت الفتاة رأسها على وقع خطواتها. وقفت على الفور لاستقبالها مبتسمة، و قد بان على محياها أنها تعرفت عليها! أما ندى فلم تكن أقل حيرة مما كانت عليه منذ حين. بادرتها الضيفة قائلة :
    ـ آسفة لأنني قدمت دون موعد مسبق، لكنني توقعت أن تكوني بالبيت يوم الأحد... فجئت مباشرة.

    تفحصتها ندى و هي تنتظر توضيحا أكثر، و دعتها إلى الجلوس من جديد. استطردت الفتاة بنفس المرح و الابتسامة لا تفارق شفتيها :
    ـ أعرفك بنفسي. أنا سماح... شقيقي أحمد نزل ضيفا عليكم منذ أكثر من أسبوع...

    عند ذكر اسم أحمد زالت الحيرة عن ندى تماما و ابتسمت في حياء و هي تذكر أحداث تلك الليلة.
    ـ ... و قد حدثني كثيرا عن حسن ضيافتكم و كرمكم معه، لذلك طلب مني أن أشكرك نيابة عنه.

    ـ لم نفعل إلا الواجب...

    في تلك اللحظة، دخلت سونيا والدة ندى و هي تحمل فناجين القهوة. ابتسمت في شيء من البرود و هي تضع الطبق فوق المنضدة. راقبتها ندى و هي تنسحب من الغرفة في توجس، ثم قامت و أغلقت الباب بهدوء. جلست من جديد في ارتباك و هي تقول :
    ـ هكذا يمكننا أن نتكلم على راحتنا...

    أومأت سماح برأسها و قد أيقنت بأن عائلة ندى تجهل بما حصل، و ربما سببت لها بعض الإحراج بزيارتها المفاجئة تلك. قالت و هي تخرج قصاصة من الورق من حقيبة يدها و تمدها لندى :
    ـ لا أريد أن أضايقك كثيرا. هذا رقم هاتفي... اتصلي بي وقتما تشائين. يسرني أن نتعرف أكثر و أن نلتقي من حين إلى آخر...

    هزت ندى رأسها موافقة و هي تتناول قصاصة الورق. كانت أحاسيس كثيرة تتداخل في نفسها... الفضول الذي كان من طبعها، و رغبتها في مساع أخبار أحمد الذي صار يهمها أمره و يشغل قسما من تفكيرها، وقلقها من ردة فعل والدتها... لم يستمر لقاؤهما سوى دقائق معدودة قبل أن تنهض سماح مغادرة و هي توصي ندى بالاتصال بها في أقرب وقت. أوصلتها إلى باب الحديقة و ودعتها مبتسمة. عادت إلى الداخل و علامات الانشراح بادية على محياها. كانت زيارة غير متوقعة، لكنها حملت معها آمالا كبيرة. هل يفكر فيها مثلما تفكر فيه؟ ذهب بنفسه للقاء أخيها، ثم أرسل أخته لتشكرها و تتعرف عليها. ما الذي يعنيه ذلك، غير كونه يعترف بجميلها؟ إنه مسلم... و هي يهودية! هل يفكر في هذه الفوارق؟ أم تراه مثل أبيها، الذي لم تره منذ طلاق والديها، و زوج أمها... لا يضع وزنا للاختلافات العقائدية؟

    اصطدمت بأمها التي وقفت تنتظرها عند باب المطبخ و نظرة عابسة على وجهها :
    ـ من تكون هذه الفتاة المسلمة؟

    ردت ندى على الفور دون أن تتلعثم، فقد كانت جهزت كذبتها منذ رأت علامات الاستهجان على وجه أمها و هي تحمل إليها القهوة :
    ـ إنها زميلتي في الكلية...

    ـ و ما الذي تريده؟

    ـ تغيبت عن الدروس يوم أمس... و جاءت تسألني عن موعد الاختبارات!

    ـ و لم تجد غيرك لتسأله!

    قالت سونيا ذلك و هي تبتعد عنها دون أن تحاول إخفاء امتعاضها. لحقتها ندى و هي تهتف :
    ـ لست أفهم، لماذا تكرهين المسلمين، في حين أنك قبلت الزواج من أبي و هو مسلم؟!

    قالت سونيا في مرارة دون أن تلتفت إليها :
    ـ ربما كان والدك هو سبب... كرهت فيه كل المسلمين!

    ـ لكن لماذا؟

    تنهدت سونيا و هي ترنو إلى ابنتها في رثاء :
    ـ لازلت صغيرة و غرة يا عزيزتي... كنت مثلك حين رضيت بالزواج من والدك و تحديت عائلتي من أجله! لكنني أدركت بعد وقت وجيز بأنني أخطأت التقدير... و أخطأت الاختيار!

    أضافت بعد صمت قصير :
    ـ حتى أنه لم يسأل عنك أو عن أختك منذ سنوات طويلة!

    ـ ألا يزال يعيش في تونس؟

    هزت سونيا كتفيها علامة الجهل و اللامبالاة، فأردفت ندى في حماس :
    ـ ربما لا يعلم بأننا سافرنا إلى لبنان... و ربما كان يبحث عنا كل هذا الوقت!

    سرت رعشة مباغتة في جسد سونيا و هي تشيح بوجهها في استياء، ثم انسحبت من المطبخ بخطى سريعة دون أن تعلق بكلمة واحدة...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:07 pm

    هيا يا أولاد... هل أنتم جاهزون؟

    خرج باسكال على الفور و هو يحمل حقيبة ظهره و هتف في مرح :
    ـ أنا جاهز!

    ربت جوزيف على رأسه في حنان و هو يقول :
    ـ جيد... تبدو متحمسا لهذه النزهة!

    هز الطفل رأسه علامة الإيجاب و أخذ يتفقد الأدوات التي أحضرها للنزهة العائلية على الشاطئ القريب. كان جوزيف يحس بتحسن ملحوظ في علاقته مع طفليه، و خاصة مع باسكال الذي أصبح يحب صحبة أبيه و تقليده في تصرفات "الكبار". فقد كان للتطورات الجديدة في علاقته مع ريما دور كبير في ذلك. في الفترة الأولى لازمه إحساس فظيع بالخيبة، مع تغير تصرفات ريما و عاداتها تماشيا مع نسق حياتها و مظهرها الجديدين. لم تعد تسمح له باحتضانها و المسح على شعرها مثلما كان يفعل دائما... بل لم تعد تترك له كفها، يمسكها حين يوصلها إلى الجامع. تغيرها ترك في نفسه مرارة شديدة، خاصة و هو يسمعها في كل مرة تدعو له بالهداية إلى دينها و تكرر على مسامعه أنها تحبه و تخاف عليه من نار جهنم. صار حبها و دعاؤها يثيران غيظه و أحيانا غضبه... فحاول أن يركز اهتمامه على شيء آخر، حتى ينسى مرارته الثقيلة. و لم يكن هناك من نشاط أحب إليه من التقرب من باسكال و مشاركته بعض نشاطاته. كان يريد ذلك منذ زمن، لكن إحساسه بعدم الرضا عن دوره كأب من جهة، و لجوءه إلى ريما باستمرار كلما أراد تفريغ عواطفه الأبوية و الحصول على قدر من الاعتراف بالجميل، حالا دون ذلك... لكن بما أن ريما لم تعد الشخص المناسب، صار المجال مفتوحا ليضع عواطفه في محلها الصحيح... هكذا كان يفكر. فأولاده مهما كانوا هم أقرب الناس إليه و الأحق بمشاعره و عواطفه. و سرعان ما تكونت صداقة بينه و بين باسكال... في حين تعمقت الهوة التي تفصله عن ريما أكثر فأكثر...

    ـ ألن تأتي ريما؟

    قالت ذلك سارا التي خرجت من غرفتها و هي تحمل حقيبتها بدورها. لم تكن ريما قد خرجت من غرفتها بعد مع أن جوزيف كان قد أعلمها ظهر ذلك اليوم بشأن النزهة الشاطئية.

    ـ حسن سننظر ما الذي يؤخرها...

    حدجته تانيا بنظرة منزعجة. فهي كانت تتحرج على الدوام من الخروج مع ريما. يكفي أنها مسلمة. و هي لا تريد أن يعتقد البعض أنها تنتمي إلى عائلتها. لكنها احترمت رغبات جوزيف و عواطفه تجاه الطفلة اليتيمة، و رضيت بأن ترافق ريما العائلة حين يتعذر عليها أن تتملص من صحبتها. أما و قد اختارت ريما ارتداء الحجاب الإسلامي، فالأمر أصبح شديد الاختلاف. لم يعد الأمر مجرد إيواء فتاة يتيمة مسلمة، بل الظهور في وضعية غير لائقة أمام أبناء طائفتها. فرضاؤها بحجاب ريما يعد تنازلا و تآمرا... لكن جوزيف كان يقف في وجهها في كل مرة، و يتحمل بكل رحابة صبر مسؤولية كل تصرفات ريما... لكن كيف يمكنها أن تذهب معهم إلى الشاطئ في ملابسها تلك؟!!

    طرق جوزيف الباب في هدوء ثم أدار المقبض. انتبهت ريما على الصوت الذي أحدثه عند دخوله. كانت مكبة على مكتبها، تراجع دروسها أو تتظاهر بذلك.

    ـ ريما... نحن ننتظرك. ألن ترافقينا إلى الشاطئ؟

    ابتسمت ريما في رقة و هي تقول معتذرة :
    ـ لدي الكثير من المراجعة التي علي الانتهاء منها...اذهبوا بدوني... لا بأس...


    لم تكن المرة الأولى التي تتملص فيها ريما من الخروج رفقة العائلة في الأسابيع الأخيرة. كانت في كل مرة تجد العذر المناسب لتبقى في المنزل، و كان جوزيف في كل مرة يراعي مشاعرها، يتودد إليها و يحاول إخراجها من العزلة التي فرضتها على نفسها. لكنه هذه المرة ابتسم في شيء من البرود المقنّع بالتفهم و هو يقول :

    ـ حسن... كما تشائين... أتمنى لك أمسية طيبة!

    انسحب جوزيف في هدوء مثلما دخل. أما ريما فإنها تركت القلم الذي كان في يدها، وضعت رأسها على المكتب في إعياء، و ماهي إلا لحظات حتى أجهشت بالبكاء. إنها تتألم كثيرا... تتألم لوحدتها و خوفها من الغد. تتألم لفقدانها الحنان و الأمان في حياتها. جوزيف لم يعد بابا يوسف الذي عهدته. العائلة التي ظنت أنها تنتمي إليها كل السنوات الماضية لم تعد كذلك. صارت نظراتها إليها فيها الكثير من الاستهجان و السخرية و الغضب... الآن تدرك أكثر من أي وقت مضى بأنها دخيلة عليهم. خياراتها الجديدة هي ما يجعلها دخيلة عليهم.

    يا إلهي... أنت تعلم أنني لم أرد إلا رضاك... يا الله ثبتني على الحق و أنر بصيرتي...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:08 pm

    دخلت ندى إلى البهو مبتسمة. كانت أمسية طيبة أمضتها صحبة سماح. خرجتا في جولة وسط المدينة ثم جلستا في مطعم شعبي و تحدثتا في شتى الأمور دون أن تتطرقا إلى الدين و العقيدة. كان الطعام طيبا، و الحديث ممتعا و قد أحبت روح سماح اللطيفة و طابعها المرح. افترقتا و قد اتفقتا على لقاء قريب...

    ما إن خطت في اتجاه غرفتها حتى تناهت إليها أصوات نسائية قادمة من غرفة الجلوس. غيرت وجهتها على الفور و اقتربت من المجلس، فاتضح لها صوت والدتها و هي تقول في غيظ :
    ـ هل تصدقين أنه يريد أن يكون زواج ابنتي في كنيسة! حتى في زواجي من جورج لم يضغط علي أحد كي أغير طقوس آبائي و أجدادي! كيف يمكن أن تتزوج ابنتي دون حضور رجل دين يهودي و مباركته؟ ما الذي سيقوله عني أبناء طائفتي؟!

    قالت مخاطبتها بصوت هادئ رصين :
    ـ هوني عليك يا عزيزتي سونيا... لماذا لا يكون هناك حفلتان، لإرضاء كل الأطراف؟ يقام الزفاف في البيت أولا بحضور رجل الدين اليهودي، ثم يذهب الجميع إلى الكنيسة لإتمام المراسم على الطريقة النصرانية...

    لم تكن سونيا مقتنعة، لكنها سكتت للحظات تفكر في مخرج آخر لا يضطرها إلى الذهاب إلى الكنيسة. فرغم زواجها من رجل نصراني، إلا أن رواسب من النفور تبقت في نفسها من النصارى. و رغم ما تدعيه من الانفتاح و التفهم، إلا أنها تنفر من كل من يختلف معها في العقيدة... كانت تعتقد بأن جورج مختلف عن غيره من النصارى، و أن هناك الكثير من المعتقدات المشتركة بينهما... و هو بطيبته و سعة صدره يبدد كل ما بينهما من اختلافات... لكن أنى لها أن تضمن أن زوج ابنتها سيكون بمثل هذه الصفات؟

    ـ خالتي راشيل... أهلا بك!

    دخلت ندى و قبلت الزائرة، ثم جلست إلى جانبها.
    ـ كبرت يا ندى، و قريبا نفرح بك مثل دانا...

    احمر وجه ندى حياء و لم تعلق، أما سونيا فقالت في ثقة :
    ـ زواج ندى سيكون مثلما أريد... يكفي أن دانا خرجت عن طاعتي، و لم تحترم إرادتي!

    لوت ندى فمها في انزعاج دون أن تتكلم، في حين واصلت سونيا في إصرار :
    ـ سأزوجها بنفسي إلى من يناسبها و يحافظ على دينها…

    تكلمت ندى في احتجاج :
    ـ مازال الوقت مبكرا على هذا الكلام… لا أريد الزواج الآن!

    تدخلت راشيل لتخفيف الموقف :
    ـ لا بأس يا عزيزتي… لا نريد أن نستبق الأحداث… دعينا نهتم بزفاف دانا الذي اقترب!

    في تلك اللحظة، التفتت سونيا إلى ندى و قالت في حدة، كأنها تصب جام غضبها عليها :
    ـ أين كنت إلى هذه الساعة؟ ظننت أن دروسك تنتهي مبكرا اليوم!

    امتقع وجه ندى و قالت في هدوء :
    ـ خرجت للتسوق مع إحدى صديقاتي…

    ـ صديقاتك؟ أية صديقة هذه؟

    كانت سونيا قد ربت ابنتيها على الاعتزاز بروح العائلة و تضامنها، و قليلا ما تسمح لهما بتكوين صداقات خارج العائلة. و لذلك فإنها كانت تعرف جل صديقاتهما. لاحظت تردد ندى في إجابة، فاستعرت الشكوك في نفسها و هتفت في غضب :
    ـ إنها تلك المسلمة التي زارتك الأسبوع الماضي… أليس كذلك؟

    شحبت ملامح ندى و لم تعلق، فصاحت سونيا بها مجددا :
    ـ ألم أحذرك سابقا من مخالطتها؟ لا أريد أن تقتربي منها مجددا أو تتحدثي إليها... هل سمعتني؟

    تمتمت ندى في احتجاج :
    ـ و لكن...

    لكن صوت سونيا الهادر قطع أية محاولة منها للاعتراض :
    ـ لا تناقشيني!

    وقفت ندى في عصبية و انسحبت من القاعة و هي تضرب الأرض بقدميها. تنهدت سونيا و هي تحدث راشيل و قد لان صوتها :
    ـ إنها لا تقدر خوفي عليها من المسلمين... لا زالت صغيرة و لا تعرف حقيقة الحياة!

    ابتسمت راشيل و هي تقول مهدئة :
    ـ كوني مرنة معها... أقنعيها بهدوء و حاولي أن لا تتصادمي معها... فالمراهقون في هذه السن يصبحون ذوي مراس صعب و مزاج متقلب!

    ـ ليتها تكون مجرد نزوة مراهقة!

    سكتت راشيل لبضع ثوان قبل أن تقول في عتاب :
    ـ ألازلت مصرة على إبعاد البنتين عن والدهما؟ لقد كبرتا الآن... و صار من حقهما التعرف على جذورهما... ربما عليك أخذهما إلى تونس في العطلة المقبلة، للتعرف على العائلة...

    صرت سونيا على أسنانها في حقد و قالت :
    ـ كم أتمنى أن أنسيهما أن لهما أبا مسلما في مكان ما من هذا العالم! كان يجب أن أخفي عنهما ذلك! جورج كان أكثر من أب بالنسبة إليهما، و لا ينقصهما شيء، فلماذا التعقيد؟ لا حاجة لهما للتعرف على أحد!

    ابتسمت راشيل و هي تقول في لين :
    ـ ما هكذا تحل الأمور يا سونيا... الفتاتان تدرسان في الجامعة، و ليستا في حاجة إلى حنان و رعاية أكبر... لكن ما تحتاجان إليه هو المعرفة. و أول ما يجب أن تعرفاه هو جذورهما و أصلهما... ثم لهما الخيار في اختيار المسار الذي يناسبهما!

    هتفت سونيا في غضب :
    ـ ليس لهما الخيار في شيء! هما يهوديتان و كفى!

    ـ نعم، نعم... بالطبع. أنا واثقة من تربيتك لهما... لكنني أقصد خيار البقاء هنا أو العودة إلى تونس... فهي غربة على أية حال، و معظم أفراد العائلة هناك. أنت تسافرين كل سنة لزيارة العائلة و الحج... فلماذا تحرمينهما من ذلك؟

    أطرقت سونيا في تفكير... لكنها بدت بعيدة عن الاقتناع و الاستسلام...





    *********



    كان المنزل غارقا في الظلام و السكينة حين دخل جوزيف. أضاء البهو و ألقى مفاتيحه على المنضدة القريبة و خطا في اتجاه غرفة الجلوس. كانت خالية و التلفاز مغلقا على غير العادة. أين ذهب الجميع؟ عاد في اتجاه المطبخ الذي كان بابه موصدا. أدار المقبض و ضغط على زر الإنارة. كان المكان منظما و نظيفا و لا أثر للحياة فيه. ازدادت حيرة جوزيف و انتابه جزع مفاجئ. هل فعلتها تانيا؟ ركض في اتجاه غرفة النوم ثم إلى غرف باسكال و سارا... كانت الغرف خالية مثلما توقع، و قد اختفت بعض الملابس و الحاجيات! جر قدميه في اتجاه غرفة ريما الموصدة. فتح الباب في هدوء يختلف عن السرعة و العصبية التي زار بها الغرف السابقة. كان هناك ضوء خافت ينبعث من المصباح المحاذي للسرير. لمح على هالته الباهتة جسد الفتاة التي تكورت على نفسها. تضم ذراعيه إلى جسدها النحيل، من البرد... أو الخوف. تقدم جوزيف باتجاهها و قد أدرك أن أمرا قد حصل ذاك المساء...

    ـ ريما، حبيبتي...

    لم ترفع الفتاة رأسها، بل علا نحيبها الذي انقطع حين دخوله و ضغطت بوجهها على الوسادة لتكتم عنه ألمها. اقترب جوزيف في لوعة. لم يكن يحتمل أن يراها تبكي، حتى بعد أن تغيرت العلاقة بينهما... جلس على طرف السرير و مد كفيه لينتشلها، يضمها، و يسمح على شعرها في حنان يخفف عنها... لكن يده توقفت عند منتصف الطريق. تذكر أن ريما لم تعد ريما الصغيرة التي رباها و رعاها طوال السنين الماضية... بل أصبحت ريما جديدة، تضع حدودا بينها و بينه و تنكمش على نفسها كلما اقترب منها. سحب يديه في خيبة و همس مجددا :
    ـ ريما... ما الذي حصل؟ أين ذهبت تانيا و الأطفال؟

    مضى وقت من الصمت المطبق قبل أن تستدير الفتاة لتكشف عن عينين محمرتين و وجه منتفخ من كثرة البكاء. حدق فيها جوزيف في هلع و هتف في نفاد صبر :
    ـ أخبريني... ما الذي جرى؟!!

    لكن ريما لم تكن قادرة على شيء سوى الاستمرار في البكاء.

    ـ هل ضربتك تانيا؟ هل آذتك؟

    هزت ريما رأسها علامة النفي، فصرخ جوزيف :
    ـ إذن ماذا؟ تكلمي!

    أطرقت الفتاة في حزن و قالت بصوت متقطع من البكاء :
    ـ تانيا... أخذت سارا و باسكال... و سافرت...

    ـ إلى أين؟

    ـ لا أدري... لكنها قالت أنني السبب... في كل مشاكل العائلة... و أنني فتاة سيئة...

    ثم ازدادت بكاء و هي تواصل :
    ـ قالت أنها لن تعود أبدا إلى البيت... ما دمت أنا فيه... و أنها ستحرمك من رؤية سارا و باسكال...

    حملق فيها جوزيف في عدم تصديق. تانيا فعلت ذلك؟ في تلك اللحظة، خطر بباله سالم و ما فعلته به سونيا. تخيل نفسه يجلس مكانه مهموما على ناصية الشارع بعد أن أمضى سنوات من البحث المضني بلا جدوى. هؤلاء النساء بارعات في لعبة الهرب و الاختفاء! لكن تانيا، زوجته الحبيبة... كيف يمكنها أن تفعل به ذلك؟ سونيا ابنة عمه، كانت تحب سالم أيضا في بداية زواجهما. لكن المشاكل الكثيرة وأدت المشاعر في المهد، و جعلت زواجهما ينهار.

    قطع أفكاره رنين الهاتف القادم من غرفة الجلوس. نهض على الفور و ركض إليه. قد تكون هي! رفع السماعة في لهفة، فجاءه صوت رجالي :
    ـ جوزيف، كيف حالك؟

    ـ دافيد! أرأيت ما الذي فعلته بي أختك؟

    ـ اهدأ أرجوك... أنا أتصل من طرفها...

    هتف جوزيف في انفعال :
    ـ تانيا جنت! كيف تترك المنزل هكذا؟ أخبرها بأن ترجع حالا... و سنجد حلا!

    ـ لا يا جوزيف... لم يعد هناك من مجال للنقاش!

    ـ لكن... كيف؟ هل تنهي علاقتنا بهذه البساطة؟

    ـ هناك حل واحد...

    قال جوزيف في حزم و قد أدرك ما يرمي إليه :
    ـ و هو غير وارد بالنسبة إلي!

    ـ الفتاة المسلمة يجب أن تغادر المنزل حتى تعود تانيا...

    ـ إنها يتيمة و وحيدة! لا يمكنني أن أتخلى عنها...

    ـ لقد فكرت جيدا، و لدي اقتراح...

    ـ اقتراح؟

    ـ نعم... لماذا لا ترسلها لتقيم لفترة عند أختك راشيل؟ هي و زوجها لم ينجبا بعد... كما أنها كانت تحب الفتاة و تعطف عليها. و بذلك نمنح الجميع هدنة... تانيا ترتاح لفترة و تهدأ ثائرتها... ريما تغير الجو و تتخلص من أجواء البيت المكهربة... و أنت تستعيد عائلتك و تضع الفتاة اليتيمة بين أيدي أمينة ترعاها و تحسن إليها... ما رأيك؟

    سكت جوزيف متفكرا. بدا الاقتراح مقبولا. راشيل هي الوحيدة التي يمكنه أن يطمئن على ريما معها. لكن كيف يمكنه أن يرسلها إلى لبنان؟ مسافات طويلة ستفصل بينها و بينه. فتاته الصغيرة المدللة...

    ـ ماذا قلت؟

    أيقظه صوت دافيد الملحّ. فقال بعد تردد قصير :
    ـ حسن... سأتحدث إلى راشيل أولا...

    تنهد دافيد في ارتياح و هو يجيب :
    ـ تانيا ستسر كثيرا لهذا... بالمناسبة، سآخذها هي و الأطفال في رحلة قصيرة... حين نعود، أرجو أن يكون كل شيء قد تم كما اتفقنا...

    أنهى جوزيف المكالمة و وضع السماعة. أحس بحركة خلفه فاستدار بسرعة. كانت ريما تقف في خجل عند باب الغرفة و هي ترتدي عباءتها الطويلة التي تلامس الأرض. أحس بألم غريب في صدره و هو يقرأ علامات الحزن على ملامحها... هل تراها أدركت ما الذي ينوي فعله بها؟
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:08 pm

    أوف! الهاتف مشغول...

    قال أحمد في قلق :
    ـ عاودي الاتصال... ربما انتهت المكالمة...

    تنهدت سماح و هي تقول :
    ـ منذ الصباح و أنا أحاول الاتصال. أشك في أن الخط مفصول!

    ـ مفصول؟!

    هزت سماح رأسها مؤكدة و قالت :
    ـ منذ يومين ذهبت إلى زيارتها، فخرجت لي أختها و قالت بأنها ليست في المنزل... و البارحة حاولت الاتصال فردت والدتها و قالت بأنها غير موجودة أيضا... و اليوم الهاتف مشغول باستمرار. أشك بأن في الأمر سرا ما...

    ـ ماذا تقصدين؟

    ـ أقصد أنهم يفرضون عليها حصارا مشددا!

    عقد أحمد حاجبيه في شك و قال :
    ـ و لماذا الحصار؟ هل حصل شيء ما؟

    ـ منذ زيارتي الأولى لها لاحظت أن والدتها لم تكن سعيدة بوجودي... و ندى كانت متخوفة من ردة فعلها. لذلك اقترحت عليها أن نلتقي في الخارج. التقينا مرتين... ثم في الثالثة اعتذرت، لأن والدتها تحتاجها في المنزل. و منذ ذلك الحين لم أتمكن من الاتصال بها، و هي لم تتصل أيضا. لذلك أعتقد أن والدتها وراء هذا الاختفاء المفاجئ.

    أطرق أحمد في تفكير، في حين أضافت سماح :
    ـ لا تنسى أنهم يهود... لذلك لن ترضى أمها بمخالطتها لفتاة مسلمة! ربما كانت ندى أكثر تفتحا من بقية أفراد عائلتها... لكننا لن تستطيع إخراجها من بينهم و التأثير عليها! أوافقك على أنها ذات فطرة طيبة... لكنها يهودية و محاطة بأبناء ديانتها. كيف سيدخل إليها الإسلام، إن لم تخرج هي إليه؟ و خروجها الآن أصبح شبه مستحيل...

    كان أحمد لا يزال مطرقا في تفكير و تركيز شديدين. رنت إليه سماح و هي تقول :
    ـ أحمد... فيم تفكر؟

    رفع رأسه ببطء ولم يتكلم... لكن بانت في عينيه نظرة مصممة. كأن أمرا ما يعتمل في رأسه... هتفت سماح في إصرار و قلق :
    ـ نظراتك لا تطمئن أبدا!

    ابتسم في غموض و هو يهمس :
    ـ ربما أصبح علينا أن نتصرف بطريقة أخرى!





    **********



    ـ هناك عريس لندى!

    هتفت سونيا في دهشة :
    ـ عريس؟!

    كان جورج قد عاد للتو من العمل و جلس يتناول الشاي مع زوجته و ابنتها دانا التي لم يمض وقت طويل على رجوعها هي الأخرى. فقد اقترب موعد زفافها و هي تتأخر كل يوم لقضاء بعض الحاجات و تحضير مستلزمات الحفل من خياطة و حلويات و غيرها... فهي تصر على أن تضع لمساتها الخاصة على حفلها. أما ندى، فقد كانت خاضعة لحضر تجول بعد ساعات الدراسة التي تعرفها سونيا جيدا. فأصبحت تفضل الانزواء في غرفتها حتى لا تقع صدامات جديدة مع أمها.

    ابتسم جورج و قال موضحا :
    ـ نعم... هناك من فاتحني في أمرها اليوم، و سيأتي لزيارتنا مساء غد.

    وضعت دانا ساقا على ساق و تابعت تسوية أظافرها بنفس العناية و هي تقول :
    ـ ماهي وظيفته؟

    ـ سيتخرج مهندسا هذه السنة!

    رفعت حاجبيها في استغراب مشوب بضيق خفي. مهندس؟ ندى تتزوج مهندسا في حين أن إيميل خطيبها هي لم يكن سوى معلم مدرسة ابتدائية! لم ترق لها الفكرة. لكنها قالت في برود تحركه الغيرة :
    ـ لكنها لاتزال صغيرة على الزواج...

    قال جوروج في هدوء :
    ـ كنت أكبر منها بسنة واحدة حين تمت خطبتك... لكن لا بأس. لسنا مستعجلين. فليتعرفا على بعضهما البعض أولا. فإن وجدا بينهما توافقا، ننظر في أمور الخطبة و الزواج...

    هتفت سونيا مجددا :
    ـ ألم يقل لك كيف عرفها؟ و ما مدى معرفته بها؟

    ـ لم أسأله عن شيء من ذلك! تحدثنا لدقائق معدودة في مقهى الحي. عرفني بنفسه و طلب موعدا، ثم انصرف في حال سبيله... حين يأتي في الغد سنعرف منه كل شيء...

    تذكرت دانا أمرا هاما فسألت على الفور :
    ـ و ماهي عقيدته؟

    ـ لم نتحدث في ذلك... لكنني أظنه مسلما!

    هتفت سونيا على الفور في هلع :
    ـ مسلم؟!! لن أزوج ابنتي من مسلم! أنا أرفض هذه المصاهرة!!

    اعتدل جورج في جلسته و تناول آلة التحكم في التلفاز و قال في لامبالاة و هو يضغط على زر الفتح :
    ـ نسأل ندى أولا...

    قالت سونيا في ثقة :
    ـ ندى سترفض!

    ـ حسن إذن... فليأت غدا، و يمكنها أن ترفضه بعدها. لا يمكنني أن أتصل به الآن لأعتذر عن الموعد...

    أشاحت سونيا بوجهها في استياء، و نهضت دانا و في عينيها سرور غيرب... و توجهت إلى غرفتها. لكنها توقفت فجأة و غيرت وجهتها. فتحت باب غرفة ندى دون أن تستأذن و دخلت. رفعت ندى، التي كانت مستلقية على سريرها و مستغرقة في قراءة كتاب، رأسها و نظرت إلى دانا في استغراب. قالت دانا في برود :
    ـ مبارك... جاءك عريس!

    انتفضت ندى و رمت الكتاب من يدها في فزع. حدقت في أختها في دهشة و تمتمت كالمصعوقة :
    ـ عريس؟!

    تعجبت دانا من ردة فعل أختها القوية، لكنها أضافت في هدوء :
    ـ سيأتي مع عائلته للتعرف عليك غدا...

    ـ و لكنني لا أريد أن أتزوج!

    هزت دانا رأسها موافقة و قالت متظاهرة بالشفقة :
    ـ لو كنت مكانك لما وافقت أيضا... لا يمكنني أن أرتبط بشخص لا أعرفه... و لا أحبه!

    سرحت ندى مع أفكارها للحظات و لم تنتبه إلى دانا التي لبثت تتابع ردة فعلها و تدرس ملامحها. كانت لديها ككل البنات في مثل سنها أحلامها و آمالها فيما يخص الحب و الزواج. لكن عقلها أصبح مشوشا في الفترة الأخيرة و لم تعد واثقة مما تريده... لم تعد واثقة من اتفاق عقلها و قلبها.
    استدارت دانا لتنصرف و على شفتيها ابتسامة غريبة. لكن قبل أن تتجاوز عتبة الباب التفتت لتلقي بورقتها الأخيرة :
    ـ نسيت أن أخبرك... العريس مسلم!

    مسلم؟! حدقت ندى فيها في عدم استيعاب و رنت في أذنها كلماته من جديد... "و أنت؟ ماهي نظرتك للمسلمين؟ هل تقبلين بالزواج من رجل مسلم؟"... لم تتصور أنها ستواجه الموقف بهذه السرعة... لكن الآن لم يكن يهمها إن كان العريس مسلما أم لا. فهي سترفض... سترفض دون شك!
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:09 pm

    كانت الفكرة مرعبة بالنسبة إلى ندى. لا تريد أن تتزوج الآن! أو بالأحرى لا تريد أن تتزوج من أي كان!
    صارت لديها أحلامها الخاصة منذ فترة وجيزة فيما يخص الارتباط و الزواج... لا تدري كيف تعلقت به بمثل تلك السهولة و السرعة. لم تتحدث إليه سوى لدقائق معدودة، و مع ذلك فإن صورته لم تفارق خيالها منذ ذلك اليوم. فرحت بلقاء شقيقته و بالحديث إليها. تمنت لو أن حديثهما يدور عنه باستمرار... فهي تريد أن تعرف عنه كل شيء! لكنها لم تستطع أن تفصح عن رغبتها، و سماح كانت متحفظة في حديثها. أما الآن فقد انقطعت عنها تماما. لم تعد تتصل بها أو تسأل عنها. إنها تعلم أن والدتها تضيق عليها الخناق و تمنعها من الخروج، فلماذا لم تعد تأتي لزيارتها أو تحادثها على الهاتف؟ هل انتهت مهمتها؟ كانت تريد شكرها نيابة عن أخيها. و لا يمكنها أن تفعل أكثر من ذلك.

    أخرجت الوشاح الذي أهدته إليها سماح حين خرجتا إلى السوق. ضمته إلى صدرها و ارتمت على سريرها من جديد. حبست الدموع التي كانت تريد التسلل من عينيها. و همست باسمه في صوت لم يسمعه غيرها، و رددته نبضات قلبها... أحمد! هل كانت تأمل حقا في أن يتقدم إليها يوما؟ ما الذي يمكنها أن تنتظره منه؟ هل استسلمت إلى أحلامها أكثر مما يجب؟ هل دق قلبها للشخص الخطأ؟ و ما الذي يمكنها فعله لو تقدم؟ هل ستواجه من أجله عائلتها، و هي بالكاد تعرفه؟ زفرت في مرارة و هي تقاوم الألم الذي يسري داخلها...

    فتحت سونيا الباب و دخلت عابسة. نظرت إلى ندى التي كانت لا تزال مستلقية على الفراش تصارع الأحلام و الأوهام و قالت في جفاف :
    ـ ندى... انهضي في الحال و استعدي... الضيوف يصلون بعد وقت قصير!

    تململت ندى في ضيق و قالت بصوت خافت :
    ـ لا أريد أن أرى أحدا! قلت لكم لا أريد أن أتزوج!

    لان صوت سونيا التي كانت أكثر استياء من ابنتها من هذه الزيجة و هي تقول :
    ـ نعم أعلم يا عزيزتي. لكنها رغبة أبيك. ستقابلينهم لدقائق معدودة، ثم ينتهي كل شيء... لا أحد يجبرك على زواج لا ترضينه. لا تقلقي من هذه الناحية!

    رفعت ندى رأسها و قد ساورها بعض الاطمئنان. كانت علاقتها بوالدتها قد ساءت في الفترة الماضية و أصبحت تتوقع منها معارضتها في كل شيء و غاب عنها أنها ستكون أكثر سعادة منها برفضها. استوت في جلستها و هزت رأسها موافقة :
    ـ حسن سأقابلهم...

    قامت من مكانها و سارعت إلى الحمام لتخفي آثار دموعها. كانت دموعها دموع حيرة و ضياع أكثر منها دموع حزن أو خوف من زوج مجهول الهوية... فقد أرهقها تفكيرها و التساؤلات الغريبة التي صارت تشغل فكرها منذ عرفت أحمد و وجدت نفسها تفكر فيه. ارتدت ثوبا بسيطا متزهدا، لا يتماشى مع ميولات عروس تحاول لفت نظار خاطبها و إثارة إعجابه. كانت تهم بوضع غطاء رأسها حين دخلت دانا و هي تهتف :
    ـ وصل عريسك! أنت جاهزة؟

    نظرت إلى شقيقتها في ضيق و زفرت و هي تقول :
    ـ دقيقة واحدة...

    نظرت ندى إلى وجهها في المرآة و حاولت أن تبتسم. كانت ملامحها حزينة... و لم يكن بإمكانها أن تخفي حزنها. فجأة، نزعت غطاء رأسها بحركة سريعة و قد طرأ على بالها خاطر غريب. تناولت الوشاح الذي أهدتها إياه سماح. لفته على رأسها ثم عقصته إلى الخلف حتى يغطي كل شعرها و تركت جانبيه ينزلان على كتفيها على طريقة الفلاحات... ابتسمت أخيرا و قد أعجبها زيها الجديد، ثم خرجت...

    تقدمت بخطى واثقة إلى غرفة الجلوس. لم يكن في نفسها شوق أو فضول للتعرف على هذا الرجل الذي جاء لخطبتها، فكل ما يعنيها هو أن تستقبل ضيوفها كما جرت العادة، ثم تنسحب بسرعة بعد أن تكون قد أدت واجبا ثقيلا. سمعت أصواتا رجالية قادمة من غرفة الجلوس. تنحنحت و تأكدت من هندامها ثم سارت في هدوء إلى الباب. وقفت مطرقة في حياء كأنها تستأذن الدخول، فتوجهت العيون كلها إليها. تقدمت بخطى ثابتة حين جاءها صوت جورج و هو يقول :
    ـ تفضلي يا ابنتي...

    سارت باتجاه الأريكة الخالية في طرف الغرفة في هدوء و لا مبالاة و هي لا تهتم بالتطلع إلى الضيوف. لكن ما إن رفعت عينيها لتلقي التحية عليهم، حتى التقطت خلايا عقلها إشارة غريبة جعلتها تتوقف في ارتباك و تشوش، كأن الارسال قد انقطع فجأة و لم يعد دماغها يلتقط سوى موجات واحدة... هي نبضات قلبها الذي أخذت تتسارع في جنون!

    انحبست أنفاسها و هي تتفرس في ملامح الشخص الماثل أمامها و على شفتيه ابتسامة هادئة. ابتسامة لمحتها لمرة واحدة و ظلت محفورة في ذاكرتها و تزورها في أحلام اليقظة و المنام. اقتلعت نفسها بصعوبة من مكانها و سارت بخطى مترنحة حتى ارتمت على مقعدها و هي بالكاد تدرك ما الذي يدور حولها.

    أمر لا يصدق! هل هو... هو؟
    مضت بضع ثوان و هي في غيبة عن العالم لا تكاد تستوعب الأمر. و بعد لحظات تملكتها رغبة في التأكد من حقيقة ما رأته، حتى تستوثق أنه لم يكن من وحي خيالها. رفعت رأسها ببطء في اتجاهه فالتقت بعينين ثاقبتين تحدقان فيها في هدوء و تمعن. خفضت عينيها بسرعة و قد سرت في جسدها رعشة غريبة. قليل الأدب! تمتمت في سرها في استياء. كم هو هادئ و واثق من نفسه. و فوق كل هذا يتأملها بوقاحة دون أن يراعي وجود والده و والدها معهما في الغرفة!

    مضت الدقائق سريعا و هي تسترق النظر إليه بين الفينة و الأخرى و تصارع مشاعرها التي أخذت تتملكها أكثر فأكثر. كان والداهما يتبادلان أحاديث شتى، لكنها لم تتابع شيئا من كلامهما، فقد شلت المفاجأة تفكيرها، و لم يعد يعنيها شيء أكثر من وجود أحمد معها في نفس الغرفة! أحمد!! إنه هو و لا أحد غيره! كان قد استعاد صحته و عافيته و استغنى عن العصا. كما أنه بدا أكثر وسامة و اهتماما بهندامه.

    انتبهت فجأة حين دخلت والدتها و اتخذت مجلسها حذوها. و بحركة من مرفقها، نبهت سونيا ابنتها بأنها قد أطالت الجلسة، و صار عليها أن تخرج بعد أن رآها الضيوف. وقفت ندى في تردد و قد استيقظت من أحلامها. لم تكن قد نطقت بكلمة واحدة طوال جلوسها، و اكتفت بنظرات متوترة خجلة. ألقت التحية بصوت رقيق هامس و نظرت إلى أحمد نظرة أخيرة شحنتها بكل مشاعر الامتنان و العرفان لأنه استجاب إلى ندائها الصامت و حقق حلمها... ثم جرت إلى غرفتها.

    أغلقت الباب و ارتمت على السرير و هي بالكاد تسيطر على انفعالاتها... لقد فعلها! رغم كل الاختلافات التي تفرق بينهما فإنه فعلها! رغم جهله كل شيء عنها و قصر لقائهما الوحيد إلا أنه فكر فيها... و جاء يطلبها من والدها! تردد في ذهنها سؤاله من جديد "هل تقبلين بالزواج من رجل مسلم؟" الآن فقط عرفت الجواب...
    نعم، أقبل... إن كنت أنت هذا الرجل!



    **********


    وقفت ريما أمام غرفتها و هي تقاوم الدموع التي تجمعت في مقلتيها منذرة بالهطول. وقفت تتأمل أثاث الغرفة التي ألفته منذ سنوات طويلة، حتى حسبت أنها "غرفتها" فعلا، و أن هذا هو عالمها الخاص. العالم الذي تستسلم فيه لأحلامها و آمالها و تمارس فيه حريتها... حرية الدين و المعتقد. ظن أن هذا هو بيتها الذي يشعرها بالاطمئنان و الأمان. تلجأ إليه لتحمي أذنيها من الكلمات الموجعة، و عينيها من النظرات الحارقة... تسكب بين جدرانه دموعها الصامتة، و ترتل فيه آيات طيبات من ذكر الله الحكيم حين يلف السكون البيت و أهله و يخيم الظلام على كل شيء، عدا قلبها الصغير المؤمن. لكنها اليوم أيقنت أن كل ذلك كان وهما. و أنها غريبة عن المكان كما هي غريبة عن أهله. لم يعد هناك مجال للشك، فقد أزفت ساعة الفراق...

    ألقت نظرة على حقيبتها الصغيرة التي جمعت فيها بعض حاجاتها الضرورية، و الكثير من الذكريات. إنها ساعة الرحيل. ستفارق الغرفة التي عاشت فيها منذ نعومة أظفارها... و البيت الذي آواها حين كانت في حاجة إلى عناية و رعاية، و الشخص الذي أحبها حين فقدت الأب و الأم و العائلة. هل تراه لا يزال يحبها؟ لو كان يحبها لما رضي بإبعادها بهذه الطريقة! انهمرت الدموع من عينيها أنهارا و انقبض قلبها الصغير في صدرها... بابا يوسف لم يعد يحبني! كانت تقاوم هذه الفكرة منذ أخبرها جوزيف بسفرها المرتقب. لكن جفاءه و قسوته تجاهها بددا كل شكوكها... بابا يوسف لم يعد يحبني!!

    تانيا لم تعد إلى المنزل بعد و قد تزايد إصرارها على عدم العودة طالما في البيت نفس مسلم! و جوزيف كان يعاني في صمت من التفكك الأسري المفاجئ. صدمته بتصرف تانيا كانت كبيرة. لكن الفراغ الذي خلفه غيابها في حياته كان أكبر، خاصة أنه لم يتعود أن يهتم بشؤونه بمفرده. و بدا أن صبره كاد ينفد في انتظار تجهيز أوراق السفر الخاصة بريما! لم يعد يطيق النظر إليها... أو لعله كان يخشى نظراتها المعاتبة و يتجنب تأثير انكسارها الحزين. لا يريد أن يضعف و يتراجع. فقد اتخذ القرار السليم، و ليس هنالك خيار آخر أمامه...

    ـ أنت جاهزة؟

    التفتت ريما لتجد جوزيف ينظر إليها في ارتباك. كان يحاول معاملتها ببرود في الفترة الأخيرة. لكن مع اقتراب رحيلها ملأت مشاعر الحزن قلبه، حتى لم يعد بإمكانه إخفاؤها و دفنها في أعماقه. مسحت الفتاة عينيها بكم عباءتها و سارعت بأخذ حقيبتها بيدين مرتعشتين. لكن جوزيف تقدم نحوها و أخذها عنها، في محاولة أخيرة لإعطائها بعض العطف... ثم سبقها بخطوات سريعة إلى السيارة التي توقفت أمام المنزل. تبعته بخطى متعثرة و هي تجيل نظرات أخيرة في المكان، تودع كل قطعة فيه و إحساس غريب يراودها... ربما لن تعود مرة أخرى! ربما يكون اليوم آخر عهدها بالبيت و أهله! تزايد ألمها لهذا الخاطر. وقعت عيناها على صورة عائلية معلقة على حائط غرفة الجلوس. كان جوزيف يجلس القرفصاء بين سارا و باسكال الذين كانا في سنواتهما الأولى، في حين كانت هي تتعلق بعنقه من الخلف و ضحكة مشرقة تملأ وجهها. كان بودها أن تودع الصغيرين... فربما لن تراهما بعد الآن. عانقتهما بنظراتها ثم جرت باتجاه السيارة...
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:09 pm

    رحلت ريما...

    كان الحزن يغلف قلبه و هو يخطو داخل المنزل الهادئ هدوء المقابر. لم تعد هناك حياة هنا! فحياة البيت و روحه النابضة رحلت... رحلت و هو الذي أخذها بنفسه لينفيها إلى أرض بعيدة. هل ستكون حياته سعيدة مثلما كانت، في غيابها؟ لشد ما كان قاسيا مع نفسه و معها في الفترة الأخيرة. نبذها كأنها لم تكن يوما المدللة و المفضلة!

    لم ينطق أحدهما بكلمة واحدة طوال الطريق إلى المطار، و بدا أن كلا منهما كان يقاوم سيل الذكريات الذي أخذ يتدفق بقوة يكاد يغطي ملامح الطريق التي أمامهما. و كانت ريما أول من فقد سيطرته على مشاعره، فانهارت باكية حين وقفت أمام بوابة الرحيل. لم تكن تريد الذهاب. كان يكفي أن يناديها و يبتسم في وجهها لتدرك أنها تعيش كابوسا مزعجا... و قد آن أوان الاستيقاظ منه. لكنه بدلا عن ذلك، قال بصوته المغلف بالبرود الحازم :
    ـ راشيل ستكون في انتظارك هناك...

    أشاح بوجهه عنها و تركها تنصرف بخطواتها المرتبكة و هي تتعثر في عباءتها الطويلة و تمسح عينيها بأصابع مرتعشة. كانت تلك الحقيقة... لم تكن كابوسا. فأي حياة تراها تنتظرها في تلك الأرض البعيدة؟

    قادته قدماه إلى غرفتها. أضاء المصباح فارتسمت على ملامحه الدهشة. بدت له الغرفة كما هي. لم تأخذ سوى أشياء قليلة. حز في نفسه أنه لم يساعدها في إعداد حاجياتها و لم يهتم باختيار ما يلزمها. كانت زاهدة في كل شيء... لم تكن يوما مثل أقرانها في شغفهم باللباس و الزينة، لكنها بالتأكيد كانت الأجمل و الأحلى بين كل بنات الأرض! أليست ابنته الأولى؟ إذن يجب أن تكون كذلك! تقدم ليجلس على طرف سريرها، يبحث عن آثار وجودها و بقايا ضحكاتها في فضاء الغرفة... انتبه إلى غياب الصورة التي كانت تضعها على المنضدة إلى جوار سريرها. صورة تجمعها بأمها حين كانت في سن السادسة... سرت رعشة في ثنايا جسده لذكرى والدتها الراحلة. هل حفظت الأمانة يا جوزيف؟!!

    قبل أن يشيح بوجهه ليطرد تلك الأفكار المزعجة عن رأسه، لفتت انتباهه ورقة مطوية بعناية و موضوعة على المنضدة. تناولها بفضول و تساؤل. فضها بسرعة و التهمت عيناه الأسطر القليلة التي خطت عليها في ذهول. أعاد قراءتها بتمهل كأن روحه تتشرب الكلمات :

    (( بابا يوسف، شكرا لك لأنك اعتبرتني ابنة لك طوال السنوات الماضية
    و شكرا لك لأنك استقبلتني في عائلتك و اعتنيت بي مثل أطفالك الحقيقيين
    آسفة لأنني كنت سببا في مشاكل كثيرة، رغم أنني لم أقصد ذلك أبدا
    أحبك كثيرا، و أدعو الله لك بالهداية كل يوم
    إن لم يكتب لنا اللقاء مرة أخرى في الحياة الدنيا فأسأل الله أن يجمعنا تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله،
    بعد أن يكون قد من عليك بالإسلام و هو على كل شيء قدير...
    ابنتك ريما))

    لم يكن جوزيف يؤمن بالحياة بعد الموت مثل كل اليهود، لكن كلمات ريما البسيطة تركت في نفسه أثرا بليغا. فلم يتمالك نفسه أن ضم الرسالة إلى قلبه، و أخذ ينتحب بصوت مكتوم...


    **********


    ـ خذ!

    ألقى الرجل السلاح بحركة رشيقة فتلقاه أحمد شاكرا و سارع لينضم إلى صفوف إخوانه في حصة التدريب. كانت إصابته قد تماثلت للشفاء، و لم ير مسوغا لتأخير العودة إلى مجموعته. خاصة بعد أن نبأه كل من حسان و أيهم بالتطورات الهامة التي طرأت على نظام التدريب و وسائله. فلم يزده ذلك إلا حماسا و تشوقا...

    استقبله رفاقه بالعناق و الدعابات الساخرة. فقد كان خبر خطبته لندى قد انتشر بسرعة مخلفا لديهم انطباعات متباينة. لكنه كان يبتسم في لامبالاة أمام تعليقاتهم، لأنه كان يتوقعها من جهة، و لأنه كان مقتنعا بأن الموضوع يخصه وحده و لا علاقة لأحد به من جهة أخرى... لذلك فهو ليس مطالبا بتقديم تبريرات أمام أحد.

    فجأة، ناداه قائد المجموعة الذي كان يتابع المشهد عن بعد. توجه أحمد نحوه في هدوء و ثقة. ابتسم و هو يحييه في احترام، ثم وقف ينتظر الأوامر. نظر إليه القائد مليا ثم قال بلهجة أبوية حانية :
    ـ مبارك عليك الخطبة يا بني!

    ارتبك أحمد للحظات، فهو لم يتوقع أن يحدثه القائد في ذلك، ثم تمتم بعد تردد قصير :
    ـ بارك الله فيك... لكن التهنئة سابقة لأوانها، لأنني لم أحصل على الموافقة بعد...

    سكت القائد لثوان، ثم تابع في هدوء :
    ـ سمعت أن الفتاة... يهودية!

    تصاعد الدم إلى رأس أحمد و احمر وجهه بشدة. لا يريد أن يبرر تصرفاته أمام أحد. لكنه القائد!
    ـ إنها كتابية يا سيدي!

    كانت لهجته صارمة و قاطعة، و في ثناياها بوادر انفعال. سأله القائد بهدوء مستفز :
    ـ و هل تعلم من نقاتل في أراضي الجنوب؟

    ـ الصهاينة الإسرائيليين، سيدي!

    تنهد القائد في شفقة و هو يقول :
    ـ أحمد يا بني... أنت لا تزال شابا يافعا... فكر جيدا في قراراتك، فإنها تبني مستقبلك... أمن قلة الفتيات المسلمات الملتزمات نشكو، حتى تفكر في يهودية؟ حتى إن لم تكن صهيونية إسرائيلية فهي كافرة بالله... بينكما مسافات بعيدة في القناعات و المعتقد. لا تستسلم إلى عواطفك و إلى نزوة عابرة فتغفل عن واجباتك تجاه الأمة! ألا تريد أن تبني بيتا مسلما أساسه تقوى الله؟

    رد أحمد في عصبية و انزعاج :
    ـ بلى يا سيدي...

    كان يقف في توتر و قد أطرق إلى الأرض مخفيا عينيه المحمرتين من الغضب. أدرك القائد أنه لا فائدة ترجى من العتاب، فأحمد لم يكن مستعدا لتلقي النصائح نمن أحد. فقال بنبرة حزينة :
    ـ بإمكانك الانصراف يا بني!

    أدعى أحمد التحية و انطلق إلى التدريب و في نفسه ثورة عارمة. إنهم لا يفهمون. لا أحد يفهمني! لماذا يضغطون علي و يناقشون خياراتي؟ هذه حياتي الخاصة و لا حق لأحد بالتدخل فيها. حتى أنت أيها القائد! ألا يكفيني الصراع القائم في العائلة؟ أبي وافق دون أن يقتنع... و أمي لم تتوقف عن البكاء منذ سمعت بالخبر! اخترتها يهودية، لكنها لن تبقى كثيرا كذلك... سأجعلها تسلم و يكون لي الأجر... خير من حمر النعم! أليس ذلك ما وعدنا رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام به؟ سأنقذها من الضلالة إن شاء الله، و أعيدها إلى دين الحق. سترون حينها... سترون جميعا!
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:10 pm

    والد الشاب اتصل يطلب ردا...

    لم ترفع سونيا عينيها عن قطعة القماش التي انهمكت في تطريزها و هي تقول :
    ـ الرد واضح و لا حاجة للنقاش فيه... ابنتي لن تتزوج من مسلم!

    ـ هل هو رأي ندى أيضا؟

    نظرت إليه في استغراب و قالت :
    ـ ظننت أننا اتفقنا منذ البداية على أن الزيارة كانت شكلية و حسب. أما القرار فأمره محسوم!

    تنهد جورج و هو يقول في هدوء :
    ـ أريد أن أسمع رأي ندى حتى يرتاح ضميري... البنت من حقها أن تعبر عن رأيها في الشاب الذي خطبها!

    قال جورج ذلك ثم قام ليغادر غرفة الجلوس :
    ـ سأذهب لأسألها بنفسي و ننهي هذا الموضوع!

    تركت سونيا هذه المرة إبرتها و خيوطها و تابعته بنظراتها و هو يتوجه إلى غرفة ندى، و على وجهها علامات التوتر. انحنت دانا التي كانت تجلس حذو والدتها لتهمس في أذنها مطمئنة :
    ـ ندى سترفض بالتأكيد... أؤكد لك بأنها واقعة في الحب!

    عبست سونيا و هي تقول في ارتياب :
    ـ من أين أتيت بهذا الكلام؟

    قالت دانا في حماس و انفعال :
    ـ حين دخلت عليها منذ ثلاثة أيام لأخبرها أن هناك عريسا لها، تغيرت ملامحها بصفة غريبة... و أظهرت اعتراضا شديدا دون أن تعرف شيئا عن العريس! هذا يعني أنها تنتظر شخصا آخر ليتقدم! شخص يعني لها شيئا ما و يزعجها أن يسبقه إليها غيره!

    لم تنطق سونيا للحظات، و سرحت عيناها في الفراغ، فهتفت دانا مجددا :
    ـ أنا متأكدة!

    عندئذ نظرت إليها أمها في شيء من القلق و قالت في اهتمام بالموضوع الجديد :
    ـ و هل تعلمين شيئا عن الشخص الذي تعلقت به؟

    هزت دانا كتفيها في لامبالاة و هي تقول :
    ـ و من أين لي أن أعلم! ابنتك بئر عميقة... و من الصعب الاطلاع على مكنونات نفسها!

    وقفت سونيا و أخذت تذرع الغرفة جيئة و ذهابا في انزعاج واضح. إن كان كلام دانا صحيحا فهي تكون قد تخلصت من موضوع العريس المسلم هذا، لكنها تجد نفسها أمام إشكال جديد... كانت تأمل أن تزوج ندى كما تريد و تتمنى، و قد ظنت أنها لا تزال صغيرة السن و بالتالي لن يكون من الصعب التحكم فيها... لكن تعلقها بشخص معين يدعو إلى القلق حقا. فكيف يمكنها أن تضمن مطابقته للمواصفات التي تريدها؟ عليها أن تراقب تصرفات ندى أكثر و تكشف سرها...

    ابتسمت دانا في دهاء و هي تقوم من جلسها و قد اطمأنت إلى تكفل والدتها بالمسألة...




    **********




    خطت ريما في ارتباك إلى داخل المنزل و هي تحمل حقيبتها بين يديها. سبقتها راشيل بضع خطوات ثم استدارت إليها و ابتسامة واسعة تزين وجهها :
    ـ تعالي، من هنا يا حبيبتي... هذه ستكون غرفتك...

    كانت قد فتحت باب غرفة جانبية تطل على الرواق و أفسحت المجال أمامها لتلقي نظرة على داخلها. تقدمت ريما في خجل و تردد. لم تكن راشيل غريبة عنها، فهي قد عرفتها قبل زواجها و سفرها إلى لبنان. و كانت هي الأخرى تحبها و تعطف عليها مثل كل أفراد أسرتها التي عاملتها خير معاملة في طفولتها. لكن لقاءاتهما قلت في السنوات الأخيرة، حيث كانت راشيل تكتفي بزيارة سنوية واحدة لبلدها، خاصة بعد وفاة والديها. لكنها على اتصال متواصل بأخيها جوزيف عبر الرسائل و المكالمات الهاتفية.

    أجالت ريما بصرها في الغرفة في انبهار. كانت الغرفة في غاية الجمال و الترتيب. كما أنها كانت تحتوي عددا كبيرا من الألعاب و التحف و قد تم إنجاز ديكورها حتى تكون ملائمة لطفل صغير، فدهنت الجدران بلون عشبي باهت و ملأت صور الحيوانات و الطيور الستائر و الإطارات المعلقة و ظهرت علامات الطفولة الحية على المفارش و كل المتاع...

    التفتت ريما إلى مضيفتها في دهشة، فابتسمت راشيل و هي تقول موضحة :
    ـ منذ زواجي و أنا أتمنى أن يرزقني الله بطفل يملأ حياتي... و من فرط لهفتي و شوقي فإنني أخذت في إعداد هذه الغرفة، و ملأتها بكل ما يحلو للأطفال اللهو به. و لبثت أنتظر قدوم الطفل الموعود... لكن...

    اختنقت الكلمات و توقفت على شفتي راشيل، لكنها قالت بسرعة و هي تخفي انفعالها العابر :
    ـ انظري... نافذة الغرفة تطل على الحديقة... منظر خلاب في الربيع... أرجو أن تعجبك...

    هتفت ريما في حماس مفتعل :
    ـ تعجبني؟ إنها رائعة... رائعة جدا! حتى غرفتي في منزل بابا يوسف لم تكن بهذا الجمال!

    ضمتها راشيل في حنان و هي تهمس :
    ـ أرجو أن تطيب لك الإقامة معنا...

    انقبض قلب ريما في صدرها عند تلك الكلمات. كانت تأمل أن إقامتها عند راشيل لن تطول كثيرا... بابا يوسف قال بأن سفرها مؤقت، ريثما تهدأ تانيا و تتجاوز المشكلة. راشيل طيبة و تحبها أيضا. لكن كيف تبتعد عن بابا يوسف إلى الأبد؟! كانت تلك الأفكار تعتمل في رأسها الصغيرة، لكنها لم تفصح عن أي منها. بل تابعت تمثيلها و ابتسمت و هي تسلم كفها لراشيل التي قادتها في جولة في أرجاء المنزل.

    كان المنزل صغيرا يكتنفه هدوء مريح، و قد أضفى عليه ذوق راشيل الراقي جمالا شرقيا مميزا. لكن رغم محاولات صاحبة المنزل لاستيعاب ريما و تعوديها على المكان، إلا أن نفس الفتاة ظلت منغلقة و اختارت أن تنعزل في الغرفة التي جهزت من أجلها لتستريح، فتركتها راشيل تجلس مع نفسها لبعض الوقت و انصرفت تعد العشاء على شرف ضيفتها.

    جلست ريما على طرف السرير في حزن. كان التعب قد أخذ منها مبلغا عظيما. تعب جسدها الغض من السفر الطويل الذي لم تتعود عليه... و تعب قلبها المهموم من فراق الأهل و البلاد... الأهل؟ أين هم الأهل؟ بعد رحيل والديها كان جوزيف و عائلته هم بقية أهلها، فلم تشك من اليتم يوما واحدا. لكن أدركت الحقيقة المرة منذ بدأت معاملتهم تتغير معها. و مع ذلك، فإنها تشبثت بهم... تشبثت ببصيص الأمل الوحيد في حياتها. فقد كانوا يعنون لها الكثير... و كانت مشاعر الحب الصادقة هي أملها.
    محمد
    محمد
    نقيب
    نقيب


    عدد الرسائل : 148
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 120
    تاريخ التسجيل : 15/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف محمد الخميس مايو 15, 2008 11:11 pm

    لم تكن قد اهتمت بتفريغ حقيبتها الصغيرة بعد. بل كان أمل واه يراودها بأنها ستغادر عما قريب و تأخذ حاجياتها معها. لكن الدقائق كانت تمر بطيئة ثقيلة، معمقة إحساسها بالغربة و الوحدة. لم تتوقف عن البكاء طوال رحلتها بالطائرة. لم تبك لفراق أحبابها و بلادها و حسب... بل أن أكثر ما آلمها هو إحساسها بالهوان. نعم، فقد هانت على جوزيف حتى رماها خارج بيته بتلك القسوة و بذلك البرود. هانت عليه حتى أبعدها عنه كل هذه المسافة حتى لا تفكر في العودة، لأنها لن تملك النقود اللازمة للسفر و لن تملك الجرأة على القيام برحلة الرجوع بعد أن طردت بذلك الشكل... و عادت الدموع لتتجمع في مقلتيها و تنحدر على وجنتيها في صمت بعد أن كانت قد حبستها أمام راشيل و جاهدت نفسها لترسم ابتسامة وديعة على وجهها... لم تتمالك نفسها أكثر، فارتمت على السرير و جسدها الصغير يهتز من النحيب، و تركت دموع الألم و الحسرة تغسل وجهها. لعلها تغسل قلبها من همومه أيضا... لماذا فعلت هذا يا بابا يوسف؟ لماذا؟

    قبل أن يأتيها الجواب عن تساؤلها، و قبل أن تستوفي الوقت الكافي لإفراغ شحنة عواطفها المجروحة، فتح باب الغرفة في حركة عنيفة جعلت نحيبها ينقطع لترفع عينيها الدامعتين في فزع. اصطدمت نظراتها بعينين قاسيتين تطالعانها في برود مخيف. كان رجل فارع الطول، ضخم الجثة يقف عند الباب في صمت. مسحت ريما عينيها بسرعة محاولة إخفاء آثار دموعها و قد راودها إحساس غريب بأن دموعها أزعجت الواقف أمامها و قد يؤدي ذلك إلى ما لا تحمد عقباه. في الأثناء كان الرجل قد تخلص من جموده و تقدم في اتجاهها. كانت ملامحه قد لانت بعض الشيء و تحركت شفتاه في شبه ابتسامة تقترب من التكشيرة. و بحركة غريزية تراجعت ريما و هي تضم ذراعيها إلى صدرها. انحنى الرجل ليقترب من الصغيرة أكثر ثم قال بصوت هامس أراده مسالما :
    ـ أنت ريما... أليس كذلك؟

    لكن كلماته لم تزد ريما إلا نفورا و انكماشا على نفسها. اتسعت ابتسامته المخيفة و هو يمد يده ليمسك بذقنها و يجبرها على النظر إليه و هو يهمس من جديد :
    ـ لا تخافي يا صغيرتي...

    انحبست أنفاس الفتاة و هي تنظر إليه بعينين فزعتين مغرورقتين بالدموع. و على عكس ما نطق به، بدا على ملامحه الاستمتاع بألمها و خوفها. لم تستطع أن تنطق أو أن تتحرك من مكانها، فقد كان جسده الضخم يسد المساحة أمامها و يسحب الهواء من فضاء الغرفة حتى كادت تختنق.

    ـ عزيزي... أنت هنا؟ هذه ريما التي حدثتك عنها...

    كان صوت راشيل التي وقفت عند الباب. أفلتها الرجل على الفور و اعتدل في وقفته دون أن يبعد نظراته عنها... و ببرود شديد، ابتعد عن ريما التي لم تختف نظرات الفزع من عينيها، ثم خرج من الغرفة دون أن ينطق بكلمة واحدة. التفتت راشيل إلى ريما في ارتباك و قالت في تلعثم و هي تهم بمغادرة الغرفة :
    ـ العشاء سيكون جاهزا بعد قليل...

    استردت ريما أنفاسها بعد أن ظنت أن الهواء انقطع عنها و تسمرت عيناها على الباب نصف المفتوح الذي غاب وراءه الرجل المخيف. لم تكن البداية تنبئ بخير كثير...



    **********




    ـ موافقة!

    لم تصدق سونيا أذنيها و هي تسمع الكلمة التي قالتها ندى و رددها جورج نيابة عنها أمام أفراد العائلة المجتمعين في المساء. انسحبت الدماء من وجه دانا التي ظنت أنها كشفت سر ندى و تنبأت بقرارها. لكن كيف؟ كيف وافقت بهذه السهولة و هي التي كانت ترفض مجرد رؤية الخاطب؟ غير معقول!!

    ابتسم ميشال، الذي كانت ندى قد أنبأته بشخصية الخاطب، و هو يقول مهنئا الجميع :
    ـ مبارك علينا! أين العروس إذن؟

    قبل أن يجيبه أحد كانت سونيا قد هبت من مجلسها في عصبية و توجهت إلى غرفة ندى. كانت ندى معتصمة في غرفتها منذ ساعات، فهي لم تملك الشجاعة الكافية لمواجهة أمها بقرارها فتركت جورج يبلغ الجميع نيابة عنها. فتحت سونيا الباب بقوة، فاعتدلت ندى في جلستها بعد أن كانت مستلقية على سريرها، و طالعت والدتها بنظرات ثابتة واثقة في حين كانت مهتزة في داخلها و لا تدري إن كانت قادرة على الصمود إلى النهاية. زمجرت سونيا بصوت غاضب :
    ـ ما هذا الذي سمعته من أبيك؟!

    ابتلعت ندى لعابها بصعوبة و هي تحاول السيطرة على دقات قلبها المجنونة التي يصم صوتها أذنيها مثل قرع الطبول، و جاهدت نفسها لتبدو لهجتها حازمة و قاطعة :
    ـ هو قراري!

    ـ أي قرار هذا؟ بالأمس كنت ترفضين بشدة... فمالذي غير رأيك؟!!

    تنحنحت ندى لتقول الكلمات التي أعدتها مسبقا و تدربت عليها، لكن صوتها خرج هامسا بالكاد يسمع :
    ـ الشاب أعجبني و ارتحت إليه في لقائنا الأول... أفلا يحق لي أن أختار الشخص الذي يناسبني؟ هذا قراري و هذا مستقبلي! دانا لم يناقشها أحد في اختيارها لإيميل. و أنت أيضا أمي، لا أحد تحكم في اختيارك حين تزوجت من أبي أولا... ثم من بابا جورج! أفلا يحق لي أن أختار الشخص الذي سأقضي معه بقية حياتي بكامل حريتي أيضا؟!

    كان صوتها قد ارتفع رويدا رويدا مع تزايد انفعالها حتى علا و تهدج و اكتسى وجهها حمرة قانية و عيناها لا تفارقان عيني والدتها في تحد سافر. أخذت نفسا عميقا، ثم واصلت في هدوء، محاولة السيطرة على توترها :
    ـ صحيح أنني لا أعرفه جيدا... بل لا أعرف شيئا عنه سوى اسمه و تخصصه. لكنني لن أتزوجه اليوم أو غدا. ستكون لي فرصة التعرف عليه و التحدث معه حتى أتأكد من مناسبته لي. فأنا أوافق على الخطبة و حسب. و الخطبة يا أمي ماهي إلا وعد بالزواج، و فرصة لدراسة الطرف الآخر. كما أنني لن أتنازل عن ديني و عقيدتي كما فعلت خالتي و خالي. فإن احترم شعائري، فسأبادله احتراما باحترام... و إلا فإنني لن أرضى لنفسي الإهانة و نقض العهد! أعلم أن مصلحتي تهمك، و أنك تخشين علي من تجربة فاشلة... لكن لا تخافي علي. لن أتسرع و لن أغامر... سآخذ كل وقتي قبل أن أتخذ القرار النهائي!

    حملقت فيها سونيا في صدمة و عدم تصديق. ثم انسحبت من الغرفة دون أن تعلق بكلمة. تنهدت ندى و هي تلقي بنفسها على السرير مجددا. و سرعان ما تسللت ابتسامة رضا لتزين شفتيها. هل كان أداؤها مقنعا؟ لا بأس به على أية حال... فقد كان كافيا ليلجم والدتها التي لم تعدم الحجة يوما...

    سرحت نظراتها في الفراغ و هي تتساءل في سرها... أي مصير ينتظر علاقتها بأحمد؟




    **********




    جلست السيدة سعاد في حزن و هي تمسك منديلا بيدها اليسرى تلوح به في يأس، في حين لم تتوقف كفها اليمنى على اللطم تارة على فخذها و تارة أخرى على صدرها و هي تمتم في لوعة و حرقة :
    ـ آخ يا أحمد... آخ! يهودية؟! يا بني... ماذا فعلت لك حتى تختارها يهودية؟! آخ يا قلبي... آخ! ماذا في فعلت في حياتي حتى أعاقب بهذا الشكل؟ آخ!!

    أمسكت سماح بكفها لتوقف حركة اللطم و هي تقول في مواساة :
    ـ يا أمي أرجوك... توقفي عن هذا و أريحي نفسك...

    تركت السيدة سعاد كفها بين كفي ابنتها و مسحت وجهها بالمنديل و هي تولول من جديد :
    ـ أرتاح؟ و كيف لي أن أرتاح و ابني الوحيد يخالف أمري و لا يهتم برضائي عنه؟ كيف لي أن أرتاح و هو يرى دموعي و حسرتي و يصر على رأيه؟

    تنهدت سماح في ضيق و هي تعيد على مسامع أمها للمرة الألف نفس الكلمات :
    ـ يا أمي... تعلمين أن أحمد أكثر الأبناء برا بوالديه. لكن هذه المرة مختلفة عن المرات السابقة! أحمد يحب ندى، و الحب أعمى يا أمي! لا يمكنك أن تقنعيه بالبكاء و العويل، فذلك لن يزيده إلا إصرارا و تمسكا بها... دعيها يخطبها ـ هذا إن وافق أهلها أولا، فهم أكثر منا تشبثا بعقيدتهم ـ ثم لن يحصل إلا الخير إن شاء الله!

    هتفت والدتها في لوعة :
    ـ خير؟ كيف يأتي الخير من يهودية؟!!

    ابتسمت سماح و هي تقول موضحة في هدوء و تؤدة :
    ـ أحمد الآن تحت سيطرة مشاعره المراهقة. فأخي الحبيب رغم عقله الراجح لم يسيطر على قلبه بعد! و لكنها نزوة عابرة ستمضي في حينها. هو الآن معجب بشخصية ندى و أخلاقها و جمالها، لكنه فيما بعد سيدرك الاختلافات العميقة بينها و بينه... بين أهله و أهلها... بين بيئته و بيئتها، و خاصة بين عقيدته و عقيدتها. فإما أن تسلم ندى، و في ذلك خير كثير و سعادة و ارتياح للجميع! و إما أن تصر على دينها... و حينها تشتد الخلافات بينهما حول ذلك، و يحصل الانفصال بصفة طبيعية!

    كانت سعاد قد توقفت عن حركتها اليائسة و أخذت تنصت إلى ابنتها في اهتمام. قالت في وجوم :
    ـ هل تعتقدين ذلك؟

    هزت سماح رأسها مؤكدة و هي تقول :
    ـ أحمد لم يتعلق بندى إلا لأنه يأمل إسلامها... فإن تبين له أنه لا فائدة ترجى منها فسيصيبه الفتور. ثم لا يلبث أن ييأس من أمرها و يعود إلى رشده.

    ثم أضافت مداعبة :
    ـ و حينها يا غالية، يمكنك أن تختاري له الزوجة التي تناسبك و ترضيك، و لن يجرأ على الرفض أو الاعتراض! و الآن، امسحي دموعك و ارسمي على وجهك ابتسامة صافية. أحمد سيعود بعد قليل، و سيكون من الأفضل أن تستقبليه بوجه مشرق، فقد أصابه الاكتئاب من عبوسك المتواصل!

    تركت والدتها المنديل و الحزن لا يفارق وجهها. اقتربت منها سماح و مسحت عينيها بكفيها في حنان و هي تهمس :
    ـ هيا ابتسمي!

    في تلك اللحظة تناهى إليهما صوت فتح الباب الخارجي و وقع أقدام يتردد في الممر المجلز. و ما لبث القادم أن دخل عليهما. ألقى أحمد السلام بصوت هادئ و وجهه مطرق إلى الأرض. كان غضب والدته عليه يحز في نفسه كثيرا، و يؤلمه أنها لا تقدر مشاعره و لا تتفهم وجهة نظره. تقدم حتى جلس على الأريكة المجاورة و قد بدا على ملامحه التردد. بادرته سماح في مرح محاولة تبديد التوتر المسيطر على الجو :
    ـ كيف كان يومك؟ أراك عدت باكرا اليوم!

    رفع أحمد عينيه في توجس و قال و هو ينظر إلى والدته بطرف خفي :
    ـ خيرا إن شاء الله... عدت إليكم بخبر، لا أدري إن كان سيسعدكم مثلما أسعدني...

    التفتت سماح إلى أمها و هي تقول في احتجاج :
    ـ كيف تقول هذا! كل ما يسعدك يسعدنا بالتأكيد. أليس كذلك يا أمي؟

    لم تنطق السيدة سعاد، و لم تتحول نظراتها الصامتة التي كانت مركزة على المنديل الذي تعبث به بين أصابعها، لكنها هزت رأسها ببطء علامة موافقة باردة. لكن حركتها أعطت أحمد بعض الشجاعة، فقال بصوت فرحته مخنوقة :
    ـ عائلة ندى وافقت!

    هتفت سماح في سرور و هي تحتضن أخاها :
    ـ مبارك يا أحمد! مبارك!

    ابتسم أحمد و هو يربت على ظهرها في فتور، و عيناه لا تزالان معلقتين بوجه والدته، ينتظر ردة فعلها في لهفة و شوق. مضت لحظات من الصمت الرهيب، قبل أن تتمتم سعاد بصوت لا يكاد يسمع :
    ـ مبارك يا بني!

    لم يتمالك أحمد نفسه و هرع نحوها يقبل رأسها و كفيها و قد اغرورقت عيناه بالدموع. عانقته والدته و بكى كل منهما في حضن الآخر...

    الآن فقط اكتملت فرحتي!
    اهلاوى على طول
    اهلاوى على طول
    فريق
    فريق


    عدد الرسائل : 1544
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 39
    تاريخ التسجيل : 16/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف اهلاوى على طول الجمعة مايو 16, 2008 9:05 am

    رائعة
    مشكوررررررررررررررررر جدا
    المزيد من هذه الروائع اخى العزيز محمد
    tito
    tito
    فريق اول
    فريق اول


    ذكر
    عدد الرسائل : 2103
    السٌّمعَة : 2
    نقاط : 169
    تاريخ التسجيل : 11/05/2008

    رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام Empty رد: رحلـــ الألف ميل ــــة (روايـة)... رحلة نحو الحقيقة... من اليهودية إلى الإسلام

    مُساهمة من طرف tito الجمعة مايو 16, 2008 9:12 am

    قصه طويله لكن ممتعه وبالتوفيق

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت مايو 18, 2024 7:41 am